في النقاش حول أسباب الثورات العربية ، يبرز ما يشبه المسلّمة التي لا تقبل الجدال، متمثلة في الدور السلبي، بل وحتى المدمر لتبني سياسات اقتصاد السوق في العالم العربي منذ ثمانينيات القرن الماضي. إذ بسبب هذه السياسات التي تعني أساساً تحجيم دور الدولة في الاقتصاد لحساب القطاع الخاص (العائلة الحاكمة)، تم التخلي بشكل شبه تام ونهائي عن مفهوم العدالة الاجتماعية، بما أفضى تالياً وسريعاً إلى إفقار جزء كبير من المجتمع لمصلحة “أقلية” القطاع الخاص التي باتت تتمتع بالجزء الأكبر من الثروة غير القابلة للتوزيع.
وإذا كان هناك أكثر من دليل يدعم هذا التفسير في العالم العربي تحديداً، إلا أن الإشكالية الجوهرية هنا تبدو في جعل “اقتصاد سوق”، هكذا بشكل عام ومطلق، نقيضاً لسعي الشعوب العربية وغيرها لإرساء أسس نظم ديمقراطية، تكفل الحياة الكريمة على المستوى السياسي كما على المستوى الاقتصادي. ذلك أن العلاقة بين اقتصاد السوق والديمقراطية تكاد تكون على العكس تماماً من التفسير السابق! وإدراك هذه العلاقة يلعب دوراً حاسماً في بلورة رؤية ما بعد الثورات، التي تمنع الارتداد للخلف وإنتاج ديكتاتورية جديدة، تتبدل فيها الشخوص والأسماء فقط.
إن القول بالتأثير السلبي لسياسات اقتصاد السوق في الحالة العربية خصوصاً يؤكد على العقد الاجتماعي الفاسد الذي ساد العلاقة السياسية طويلاً، والقائل بـ”الخبز بديلاً من الحرية”. لكن هل ما نشهده اليوم هو ثورات لأجل الخبز، أو لأجل الخبز وحده؟ وإذا كان الجواب، كما هو معروف للجميع، هو “لا”، فإن السؤال يغدو عن كيفية منع إعادة إنتاج الماضي بعنوانيه العريضين: “خبز بلا حرية” و”ديكتاتورية بلا خبز ولا حرية”، ويكون ذلك ابتداء بمحاولة فهم تمكن النظم السياسية من فرض هذين العنوانين لعقود طويلة.
إن الديمقراطية أساساً ليست سوى “تسوية” لصراع بين السلطة بكل أشكالها التي تنحز دائماً إلى التسلط والديكتاتورية، وبين المجتمع الذي يرفض قيود تلك السلطة. ولا تتحقق هذه التسوية إلا بوجود مجتمع قوي يحجّم السلطة ويقيدها هو بدلاً من أن تقيده وذلك من خلال المساءلة، والتعبير الحر عن الرأي، ليس من قبل الأغلبية فقط بل والأقلية أيضاً أيا كانت الفئات التي تندرج تحت توصيف الأقلية.
ومثل هذا المجتمع القوي لا يكون إلا بالتأكيد على كينونته مجتمعاً مستقلاً عن الدولة (من حيث هي أجهزة رسمية على كل مستوى) من خلال سيطرته وتحكمه بموارد مادية ومعنوية لا تخضع أبداً لسيطرة الدولة، بل هو يدافع عن هذه الموارد في مواجهة الدولة. هكذا فقط استطاعت الطبقة البرجوازية الأوروبية -المستقلة بالصناعة ومواردها المالية عن الحكام والإقطاعيين-أن تفرض تغييراً جذرياً في النظام السياسي الغربي أسس للديمقراطية الراسخة اليوم. وهكذا أيضاً، استطاعت الدولة العربية التسلطية الاستمرار عقوداً طويلاً بتأميم الاقتصاد أو جعله قائماً على ريع الثروات الطبيعية، أو النفط خصوصاً. أما بعد تبني سياسات الخصخصة “المشوهة”، فقد ظهر جلياً الترابط “الواعي” بين السلطة والمسيطرين “الجدد” على الاقتصاد “الجديد“.
الداء ليس في سياسات اقتصاد السوق والقطاع الخاص بالمطلق، بل في الفساد الذي جعل من هذه السياسات وسيلة لإعادة إنتاج الاستبداد والاستمرار بالتحكم بالثروات الوطنية إنما بثمن أقل مما مضى (من ضرائب ودعم للسلع الأساسية). وعلى النقيض من الحنين إلى سيطرة الدولة على الاقتصاد من خلال القطاع العام، فإن شرط إنجاح مرحلة ما بعد الثورة بما تحمله من تغيير وإصلاح يكون بالتأكيد على أهمية القطاع الخاص الوطني باعتباره أهم ركائز المجتمع القوي في المواجهة التي ستبقى متواصلة أبداً في كل مكان مع الدولة التسلطية بطبيعتها.