خطر على أمن الدولة , يثير النعرات القومية , يقوّض نظام الحكم , يتسبب في وهن نفسية الأمة , يسعى إلى اقتطاع جزء من سوريا و إلحاقها بدولة أجنبية …كانت هذه هي تهم جاهزة تطلقها محاكم النظام السوري ,على مدار أكثر من نصف قرن ,بحق أي مواطن كردي سوري يتم اعتقاله حتى ولو بجرم جنائي , في الوقت الذي لم يكن فيه حلم الكرد السوريين و مطالب جميع أحزابهم تتجاوز اعترافاً بخصوصيتهم من قبل السلطة السياسية و بعض الحقوق البسيطة ضمن الوطن السوري ,على رأسها إعادة الجنسية السورية للذين جُرّدوا منها بموجب قانون الإحصاء السيء الصيت ( وهنا المفارقة).
لا أصل لهم , غرباء , قرباط , ماسحي أحذية , حثالة …هي صفات جديدة تطلقها على الكرد هذه المرة بعض شخصيات المعارضة السورية.
مرتدون , كفرة , عَبَدة النار و الشيطان … مرادفات ترافق ذكر الكردي في ثقافة الإسلاميين و تنظيماتهم و ثمة من حلّل سبي نسائهم و قتل رجالهم و استباحة أموالهم و ممتلكاتهم.
رغم كل هذا دافع الكردي السوري عن الوطن ضد داعش و أخواتها و وقف و لا زال ضد الاحتلال التركي و توابعه و التمدد الإيراني و حشوده , و قبل كل ذلك وقف في وجه النظام و استبداده و قبله تصدر هذا الكردي صفوف المدافعين عن الوطن ضد المحتلين و المستعمرين .
الكرد السوريون هم معارضون لسياسات النظام منذ 1957 منذ أن أسسوا أول تنظيم سياسي تبنى النضال السلمي من أجل سوريا ديمقراطية تضمن حقوقهم , عندما كان الإخوان المسلمون و طليعتهم الثورية يقتلون سوريين على الهوية بسبب الانتماء الطائفي و يحرقون المؤسسات العامة نهاية السبعينيات و بداية الثمانينيات , نظم الكرد مهرجاناً سلمياً حاشداً في نوروز 1981 في موقعة النبي هوري – عفرين دعوا فيه إلى نبذ العنف و إلى وطن يتسع لكل أبنائه , في 1986 سار آلاف الكرد في تظاهرة سلمية حاشدة في دمشق نفسها احتجاجاً على قمع السلطة لاحتفالات نوروز مطالبين باطلاق الحريات و الديمقراطية راح فيها ضحايا , طوال عقد التسعينيات نظم الكرد احتجاجات عديدة أمام البرلمان السوري و محاكم أمن الدولة داعين إلى إعادة الجنسية السورية للكرد المجردين منها و إلى إطلاق الحريات و إلغاء الإعتقال السياسي , في فترة انتعاش المنتديات الحوارية كان الكرد أكثر من يرتادونها, شاركوا بفعالية في تأسيس إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي , قدموا نموذجاً رائعاً من الاحتجاج السلمي في 2004ضد عنصرية البعض العربي و عنف النظام راح فيها ضحايا بالمئات … أعتقد أن هذه المحطات جميعها كانت من أجل الوطن السوري و ليست من أجل كردستان مستقلة ! .
في بداية الحراك السلمي 2011 شارك الكرد بقية السوريين احتجاجاتهم السلمية لكنهم تراجعوا إلى الخلف حين سلمت المعارضة السورية أمرها لتركيا و ارتمى النظام في حضن ايران , راحوا يؤسسون لإدارة مدنية تدير شؤون الناس في مدنهم و قراهم و ينشئون قوة عسكرية للحماية و الدفاع عن وجودهم …و ها هم اليوم يدافعون مرة أخرى مع الغيورين من عرب , تركمان , سريان آشوريين عن سوريا ديمقراطية لكل السوريين .
طاقم الحكم و جماعة الإخوان المسلمين صدعوا رؤوس السوريين بالوطنية و السيادة – كل من جهته و من خلال مكنته الإعلامية- و ظلوا يجترّون الشعارات و الأناشيد التي تتغنى بالوطن على مدار عقود , لكن الحقيقة أنهم هم أنفسهم فتكوا بالوطن و هتكوا كرامة المواطن أكثر من الأعداء .
إدمان الطرف الأول على النفوذ و السلطة, و استماتة الثاني من أجل انتزاعهما , وفق معادلة عنف مزمن يمتد إلى الخلف نصف قرن , يبرر فيها كل طرف جميع الوسائل من أجل غايته,حتى وإن كانت التضحية بالوطن نفسه و بملايين المواطنين هي الوسيلة , هذا ما حدث نهاية السبعينيات و يحدث في البلاد خلال السنوات الأخيرة , و هذا ما دفع بالطرف الأول لفتح أبواب البلاد أمام إيران و مشروعها و ميليشياتها ,و دفع بالثاني للتحالف مع تركيا و تمرير مشروعها و جهادييّها الى الداخل السوري لتغدو اليوم أجزاء حيوية من الوطن بمثابة مناطق احتلال تركية و أجزاء أخرى حيوية بمثابة مناطق تواجد و نفوذ إيرانية .
ما يجري ترتيبه على الأرض السورية من تقسيم لمناطق النفوذ ليس في الحقيقة إلا نتاج تفاهمات بين إيران وكيلاً عن النظام و ميليشياته و تركيا وكيلاً عن الإخوان و كتائبه, مهما كانت عناوين التسويق , والدولتان تتصرفان بسوريا و مكوناتها و كأنها مشاع , كأن سوريا ليست للسوريين , كأنها مزرعة و ليست وطن … لا يتردد هؤلاء( النظام و الإخوان ) في تذييل عقود بازاراتهم – طبعاً- بعبارة ” لا للتقسيم ” وتوجيه تهمة “اللاوطنية ” القديمة الجديدة للكرد ! .
ما هي الوطنية بحق السماء ؟ و ما الفرق بين احتلال الجولان و احتلال جرابلس و الباب أو التنازل لإيران عن مناطق بأكملها في جنوب العاصمة لنفوذ مستدام ؟ ما الفرق بين محتل و آخر ؟ من الذي يفرط بالوطن و السيادة -إذاً – و من الذي يدافع عنه ؟
الكرد حتى وهم اليوم في موقع قوة, تسيطر فيه قوات سوريا الديمقراطية على ربع مساحة البلاد , لا يطالبون بالانفصال, بل بتأسيس نظام برلماني اتحادي يضمن حقوق كل الأطياف السورية , يديرون هم من خلاله مناطقهم
ويمارسوا فيها خصوصيتهم , تجربة الكرد في إدارة أنفسهم خلال السنوات الماضية رسمت واقعاً جديداً بحيث لن تستقر سوريا بعد اليوم ما لم تجد القضية الكردية طريقها إلى حل مناسب يتم توثيقه في الدستور الجديد .
لم يكن الكرد يوماً في صف النظام القائم ولن يكونوا , السبب بكل بساطة هو أن لا مصلحة لهم مع نظام بدأ عهده معهم بحزمة من إجراءات عنصرية ( قانون الإحصاء المشؤوم و مشروع الحزام العربي السيء الصيت و عمليات الصهر القومي و التعريب…) و تحول إلى مستبد أجرم بحق كل مواطنيه لمجرد أنهم طالبوا بقليل من كرامة و حرية. لكنهم لن يكونوا أيضاً مع مشروع الإخوان – تركيا الذي يجري تنفيذه عن طريق معارضة اسطنبول و جميع الفصائل و التنظيمات العسكرية ذات الطابع الديني الطائفي.
الكرد الذين عاشوا في سوريا هامش حياة على هامش وطن دون أن ينعم الكثير منهم حتى بهوية هذا الوطن هم الذين يدافعون اليوم عنه دون أي مقابل سوى طموحهم في العيش أعزاء في كنفه ,شركاء مع بقية السوريين .