من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت

بهذه العبارة ردّ أبو بكر الصديق ( صاحب رسول الله وأكثر المقرّبين لديه في دعوته ) على عمر بن الخطاب الذي قال : والله ما مات رسول الله وليبعثنّه الله فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم.

يبدو أنّ أبا بكر الصديق تنبّه سريعا وقبل غيره من صحابة الرسول إلى الخطر الذي يمكن أن يحدق بالدعوة الإسلاميّة بغياب الرسول محمّد والذي أصبح بنظر فئة كبيرة من المسلمين صمّام الأمان والقائد الأوحد والشخصيّة التي بها سيستمر الإسلام وبغيابها تنتهي الرسالة بالإضافة إلى صفة النبوّة والتي يصطفي بها الله بشرا عن غيرهم لذلك جاء الرد الحاسم من أبي بكر ( الذي استلم مقاليد الحكم بعد وفاة الرسول )  والعبارة التي حملت في مغزاها الكثير من المعاني وأهمها : إنّ الرسل والقادة يرحلون لكنّ الرسائل تبقى ولا تزول.

وعلى الرغم من حرص الرسول خلال حياته ودعوته على توضيح هذا الجانب من خلال التذكير بأنّه بشر مثلهم وإنّما يوحى إليه من عند الله إلّا أنّ الدعوة الإسلاميّة سرعان ما تأثرت بغياب الرسول وخاصة بعد وفاة أبي بكر الصديق صاحب تلك المقولة المشهورة.

الحال نفسه كان حاضرا في التاريخ القديم ويمكن القول أنّ تأثير الكاريزما كان عاملا أساسيّا في نجاح الكثير من الإيديولوجيّات أو انتصار العديد من الثورات أو الفوز في المزيد من المعارك والحروب وفي حقب زمنية مختلفة.

ومن المهم التفريق بين مايمكن أن تفعله الكاريزما من شحذ للهمم وتشجيع على الوصول للهدف والاستمرار في الرسالة بعد غياب تلك الشخصيّة الكاريزميّة وبين أن تتحول تلك الشخصيّة إلى كائن مختلف يلبس بلبوس على غير قياسه ويبالغ بوصفه ومدحه وجعله فوق العادة من قبل رعيّته حتى يتحول رويدا رويدا إلى متسلط ومستبد وقابع على رقاب الرعيّة التي تقدّم له الطاعة العمياء يدفعها إلى ذلك إمّا الخوف أو الحصول على المال أو السلطة أو جميعها معا .

لقد شهد التاريخ أمثلة عديدة عن تلك الدكتاتوريات التي صنعتها شعوبها ورعاياها  وقد كان فرعون الذي استطاع أن يقنع رعيته بأنّه الإله الذي يستطيع تحقيق جميع رغبات رعيّته مثالا عن السلطة المستبّدة التي تحكّمت بعقول الناس قبل أن تتحكم بنفوسهم وكان لوزيره هامان دورا كبير في صناعة شخصيّة الرب فرعون لكنّ فرعون وبفضل السلطة الكبيرة التي منحت له اعتقد فعلا أنّه الرب الذي ينشغل عن الناس لأنّه يخلق لهم البقر حينا والغنم حينا والإبل حينا آخر لدرجة أنّ حجّابه منعوا وزيره هامان ( العارف بسرّه ) من لقائه بحجة أنّه مشغول بخلق الإبل وعندما عاتبه هامان على عدم السماح بلقائه قال فرعون : لقد كنت مشغولا بخلق الإبل فرد عليه هامان بكلمته المشهورة : على هامان يا فرعون.

إذا : هي الشعوب التي تصنع مستبديها ودكتاتورياتها يدفعها ذلك إمّا مصالح المستفيدين من الشخصيّات المقرّبة لها أو الخوف من مواجهة السلطة .

هناك ظاهرة أخرى لا يمكن أن تكون بمنأى عن أساس الظاهرة التي نتحدث عنها ولكن قد تكون للظروف المحيطة بها أثرا مخففا على النتائج الكارثيّة التي تخلّفها شخصية الدكتاتور الذي تكون سلطته على شعب كامل .

هذه الظاهرة تلاحظ أكثر من خلال النظم أو الأحزاب السياسيّة في الوقت الحاضر وخاصة في الشرق الأوسط أو مايسمى ب ( العالم الثالث )

معظم الأحزاب التي ترسم هالة من العظمة والقدسيّة حول شخصية قائد الحزب وتصفه تارة بقائد الشعب وتارة بفيلسوف الأمة وتارة أخرى بالرمز هي أحزاب تذيّل أسماءها بصفة الديمقراطيّة وليس هذا فحسب بل أنّها تحاول أن تقنع مناصريها أنّ الحزب والقائد صنوان متلازمان لا يفترقان وأنّ استمرار الحزب من بقاء القائد وأحيانا قد تبالغ تلك الأحزاب برفع شعارات فارغة وباهتة وبعيدة عن المنطق من قبيل ( لا حياة بدون القائد ) أو ( بالروح بالدم نفديك يا قائد ) .

إنّ سلطة القائد الواحد الأوحد في الأحزاب السياسيّة سرعان ماستتحول إلى سلطة دكتاتوريّة ستصبح وبالا على شعبها إذا ماتسنى لها الصعود إلى الحكم وليس أمام الشعوب آنذاك إلا خيارين لا ثالث لهما : إما الخنوع والاستكانة والقبول بالاستبداد أو الثورة وتحمل تبعاتها .

إنّ التطور الهائل في وسائل التواصل الاجتماعي والثورة التقنيّة وما نتج عنها من تطور وسائل الإعلام وتطور الوعي الثقافي والسياسي لم يفلح حتى الآن بالتأثير الفاعل على النخبة السياسيّة والثقافيّة في مجتمعاتنا الشرقيّة فلا زالت صور القادة والرؤساء معلّقة في كلّ أركان حياتنا وحتى في غرف نومنا ولا زالت صفة القدسيّة تطغى على رموزنا الحيّة منها والميّتة ولا زلنا نهتف بروح القائد ونقسم برأسه ونحتفل بميلاده وبعيد زواجه و نحزن لحزنه ونلبس السواد لوفاة أحد أقربائه .

لا زلنا بحاجة لمن يذكّرنا دوما بأن كل الأنبياء والرسل ماتوا وبقيت رسالاتهم وأنّ الشعوب تبقى والقادة راحلون وأنّ تقدير العظماء في أيّة أمة لا تكون بتقديسهم  وتحويلهم إلى ( فرعونات ) ولكن بتقدير جهودهم وجعلهم قدوة لغيرهم دون مبالغة أو تعظيم لشخصيتهم . 

yekiti