يعرف الحزب بأنه مجموعة بشرية منظمة وفق هيكلية معينة، تؤمن بمبادئ ومنطلقات وأفكار نظرية، وتحولها إلى خطط وبرامج عملية لتحقيق غايات وأهداف محددة كتسلم السلطة أو المشاركة فيها وفي صنع القرار بمجتمع ما..، فهناك أحزاب دينية (طائفية) وعرقية (قومية) وطبقية (اشتراكية) أو أحزاب تخصصية ومهنية (بيئية واجتماعية..).

بسبب الحاجة والضرورة والأهمية أنتج المجتمع الكردي في سوريا منذ أواسط القرن المنصرم أحزاباً في غالبيتها قومية ديموقراطية تحررية، وبعملية تراكمية مديدة، أفرزت خلال مسيرتها ظواهر(بغيضة) بل حالات متكررة ومستمرة إلى تاريخه، لا نخوض في تفاصيلها ونتجنب التعميم أو حتى التحديد، لكن المتعارف أن معظمها قائمة على مبدأ الحزب من أجل الحزب، وتسخير الحزب لمصلحة أفراد (قيادات)، وهؤلاء بدورهم جنودٌ أوفياء لتنفيذ أجندات قوى توفر لها أسباب القيادة من سياسية ومالية و ..، وبذلك تغدو التنظيمات هياكل مغلقة جامدة تتلقى الأوامر والتعليمات عن طريق رؤسائها، حيث تُعرف وتُميّز بأسمائهم الذين أصبحوا رموزاً وزعماء،  يستحيل فصلهم عنها شكلاً وأسلوباً ونهجاً..، وهنا تطغى الفردية والعطالة والترهل والتبعية في كينونتها، والاتكال والتعويل في ديمومتها، تنتظر من مرجعياتها الخارقة لتصنع البديل وتنجز المستحيل وتقدم لها على طبقٍ من ذهب، أو تنتظر فشل وإخفاق منافسيها على الأرض لتجني مكاسباً  وتبني أمجاداً على إثرها، وهنا تفقد الأحزاب مبرر تشكلها كوسائل وأدوات نضالية لحشد الطاقات وتنظيم الصفوف وقيادة الجماهير لنيل مطالبها وتحقيق طموحاتها.

وهذا ما يجعل الأحزاب بؤراً للتنافر والتصادم داخلياً على المنافع والمناصب، ومصادراً لتجميع الثروة وكسب الشهرة،  فتتحول إلى كتلٍ وتياراتٍ متعارضة ومتناقضة، فإما تحافظ على وحداتها التنظيمية على مبدأ التوافق وتقاسم المصالح، أو تتشظى لتشكيل أحزابٍ بعناوينٍ جديدة وبملحقاتٍ اسمية كبيرة وكثيرة مبهرة (الديمقراطي، الكردستاني، الوطني، التقدمي، الشعبي، اليساري ..إلخ) وشعاراتٍ رنانة عالية السقف وخطاباتٍ ديماغوجيةٍ للاستهلاك المحلي، لأجل الخداع والتمويه وتسويق الذات، ولتشرعن وجودها ضمن قائمة الأرقام المطلوبة لتشكيل مداراتٍ حول المحاور الرئيسية المتصارعة على الساحة ووفق تصنيفٍ للأحزاب (كبيرة، صغيرة، أصيلة، متفرعة، شرعية، مصطنعة،..).

    لهذه الانقسامات المتكررة والمتتالية آثارٌ سيئة ومضرة لقضايا الشعب الكردي المصيرية لأنها تبدد الطاقات والخبرات، وتشتت الأفكار والتوجهات، وتخلق العداوات والخصومات، وتشوه صورة الحركة وحقيقتها وأهدافها، وتشكك في مصداقيتها وفعاليتها، وتفرغها من محتواها النضالي التحرري، وتعرضها للاختراق والارتزاق والانزلاق، فتطفو على السطح قياداتٌ أمية أو شبه أمية غير مؤهلة علمياً ومعرفياً وفكرياً .. ( مع وجود أكثرية صامتة أو مسايرة أو غير مهتمة)، فتصبح كوابح للتطوير والتغيير والتجديد، وبواعثاً للفساد والاستبداد، وموانعاً للاجتهاد والانتقاد والاستعداد، ومصادراً للإشاعات والاتهامات والانتقامات، وحواملاً للخنوع والانخداع والانقياد، ودعاة للتكتل والتخندق والاصطفاف، ولاستكمال مشاريعها تستقطب بطانات من الرعاع والانتهازيين والمتسلقين من شرائحٍ مختلفة من المجتمع، وهؤلاء يزيدون الطين بلة، فتصبح غير مؤهلة وغير كفوءة لإنجاز أية مهام  ملقاة على عاتقها بحكم ادعائها واحتكارها تمثيل  الكورد  إرادة وقراراً.

    كل هذه التوصيفات تغذّي ثقافة التخوين الممهّد والمشرعن لاغتيال الكوادر المثقفة والفاعلة والنشطة (مثل ظاظا وآپو أوصمان وعلي خوجة و..) وتصفيتها، تحضّ على استمرار الخلافات البينية والتناقضات الجانبية كي تحرف بوصلة النضال من مقاومة المستبدين والشوفينيين الذين اغتصبوا حقوقنا من سلبٍ و نهب وانتهاكٍ وزهقٍ وهدرٍ، وطمسٍ للهوية والثقافة والتاريخ…، إلى مواجهاتٍ ومناكفاتٍ ونزاعاتٍ حزبية وشخصية (كردية- كردية)، وتلهيها بأزماتٍ داخلية ومشاكل جانبية تكون ضحيتها قضية أرضٍ وشعب، التي طالما أُشعلت ثوراتٌ وانتفاضاتٌ عديدة لأجلها، وبُذلت فيها تضحياتٌ كبيرة لأجل البقاء والعيش بحرية واستقلالية وسلام أسوةً بشعوب المنطقة والعالم.

   رزوح المجتمع الكردي تحت سلطة الأنظمة الحاكمة وسياساتها الشوفينية القمعية من أهم محددات خصائص ومواصفات الأحزاب الكردية بناءً وأداءً، إلى جانب تدخلات واملاءات القوى الكردستانية المتنفذة في تكوينها تنظيماً وفكراً ونهجاً، لتصبح توابع لها، وتسبح في أفلاكها وتخدم أجنداتها، وهذه ماعززت التبعية ونبذت الاستقلالية ونفت الخصوصية في السلوك الحزبي والمزاج الشعبي، وجعلتها من الشروط الواجب توفرها قبل الإقدام على أي نشاطٍ سياسي، بمعنى ضرورة تأمين موافقة ومشروعية (وثيقة حسن سلوك- ترخيص) من طرفٍ متنفّذ، الذي يحدد طبيعة الموقع والموقف والاتجاه ومستوى النشاط والفاعلية والتأثير وفق الوثيقة والجهة المانحة لها، وأصبحت أحكاماً تعاقب بموجبها كل من يسول له نفسه التفكير والنقاش والحراك(التحليق خارج السرب) مخالفاً هذه الضوابط والقوالب (الخطوط الحمر) المرسومة لها خارج الأصول والإجراءات المفترض إقرارها في المحطات والهيئات الشرعية لتلك الأحزاب.

    ضمن الظروف والأوضاع التي أحدثتها ما تسمى بثورات الربيع العربي ظهرت منظومات وتيارات جديدة كالتنسيقيات الشبابية والاتحادات النسائية ومؤسسات المجتمع المدني، وأثبتت حضورها في الشارع الكردي بفضل الإمكانات المالية والإعلامية والحصانة الدولية المتوفرة لها تحت عنوان الفعاليات الاجتماعية المستقلة، وأصبحت تنافس الأحزاب في توجيه الرأي العام على عدة صعد، وهذا ما أثارت حفيظة الأحزاب لأنها تعتبر نفسها الوريثة والوصية على القضية، فسعت لاختراقها أو احتوائها أو استثمارها..، وبالرغم من ذلك بقيت نشطة ومؤثرة، وأصبحت شريكةً في بعض الأطر المشكلة (ENKS)، ويعقد عليها الرهان في المشاريع السياسية مستقبلاً.

    فرزت الأزمة الخانقة المستدامة في سوريا وما رافقتها من تدخلاتٍ إقليمية ودولية الأحزاب السياسية وفقاً للمصالح والمزايا التي تتحقق لها على الصعيد الشخصي والعائلي والحزبي لدى هذا المحور أو ذاك الحلف، أو تبعاً لتحالفاتها الكردستانية، وهذا ما يصعّب الاتفاق  بين الأطر القائمة بالرغم من المحاولات المتكررة لإنجازها (اتفاقيات هولير ودهوك)، وستبقى في حالة شد ومد ريثما تنكشف حقيقة المشاريع المقترحة من قبل مراكز القرار، تحدد فيها أدوارالكورد ومواقعهم فيما بعد القضاء على داعش، في ظل الممانعات الشديدة من الدول الإقليمية والمقتسمة لكوردستان للنهوض الكردي وتطلعاته.

    إن استمرار الأحزاب الكردية بهذه السوية والنمطية، وبهذه الثقافة والذهنية، وبهذا السلوك والأداء، ومداومتها على الانغلاق والانقياد أوالتفرد والإلغاء وإصرارها على التخندق والتناحر ورفضها للتوافق والتحاور، ستصبح واهنةً هشة ينتظرها مستقبلٌ أسود، لأنها ستكون قد عجزت عن توحيد صفوفها ورؤاها وتثبيت حضورها، وأضاعت فرصةً ذهبية (لاسمح الله) في تاريخ الكرد لتأمين حقوقهم القومية والوطنية كما تقرها العهود والمواثيق الدولية.

ملحوظة: نُشرت هذه المادة في العدد (59) من صحيفة “Buyerpresss”الورقية.

yekiti