دخلت الحرب السورية السهلة البسيطة مرحلة  الحرب المعقدة  المركبة.، فبعد أن كانت بين النظام و المعارضة، تحولت إلى حرب تقوض العملية السلمية بين الهويات و المجموعات الأهلية السورية و امتدادتها  الإثنية و المذهبية و  الإقليمية و  حلفائها  الدوليين

لابد من الاعتراف بأن شروط السلام تكاد تكون معدومة  لعدم وجود أطراف تؤمن بالحوار، أو الحلول السلمية. و ذلك، لأن المجموعات العسكرية المتقاتلة لا تحارب من أجل الحرية و الديمقراطية و التعددية، و إنما من أجل  مشاريع  سياسية أحادية بسيطة،  تفتقر إلى حس الحرية و العدالة و التعددية، و لا تتطابق مع المجتمع  السوري  المركب في تعقيداته. وعليه،  فإن أي  إنتصار عسكري لهوية ما أو مجموعة أهلية على أخرى، هو صعود حتمي لها فوق  الدولة و القانون، و بالتالي فوق المكونات  الأهلية الاخرى. و في هذه  الحالة، ستتحول هذه الكتل لا محالة إلى تأسيس  نظام فاشيٍّ مناهض للقضاء و القانون العادلين،وذلك بفرض اللا عدالة و تعميمها بالعنف، مثلما  فعل  النظام   السوري  طيلة عقود.

إن اللاعدالة المزمنة التي تسببت في تفجير الحرب الاهلية السورية, تحيلنا الى البحث  عن  مسبباتها و تفكيك مكوناتها، و هي تتمثل في ثلاثة مكونات  أساسية قاتمة: أزمة شكل الدولة و تكوينها، و أزمة الثقافة  الوطنية،  و أزمة الثقة بين الهويات. و علينا الإعتراف بأن هذه الأزمات الثلاثة  توفر  شروط  الحرب  والتقسيم أكثر من شروط  السلم و الوحدة الوطنية. و لولا هذه الأزمات، لما استطاعت الكتل السوداء تجريم المجتمع السوري و تعميم  العنف و جر الصراع إلى دائرة الاصطدامات  الأهلية المعقدة  والمتداخلة.

أزمة شكل الدولة و تكوينها:

 تشكلت الدولة المركزية في سوريا، قسرياً، دون  العودة إلى هوياتها، أو على الأقل دون مراعاة خصوصياتها، كمجموعات أهلية. و هذا شكل إجحافاً بحق المجتمع السوري المتعدد إثنياً و دينياً و مذهبيا. و ذلك، لأنه جعل من إمكانية صعود مكون فوق المكونات السورية الأخرى عملية حتمية، وسوف يسعى إلى تأسيس دولة خاصة بدلا من  بناء دولة وطنية عامة، و بالتالي ثقافة خاصة، تعارض الثقافة الوطنية المطلوبة، و تعطل تمدنها الطبيعي. ومن هنا، استطاعت المجموعة الأهلية العلوية السيطرة على  الدولة، من خلال الهيمنة على المؤسسات  الأمنية و العسكرية ومراكز النفوذ  الفعلية،  مستغلة نهوض الفكر البعثي لشرعنة  موقعها الفوقي، عبر التلاعب و إستغلال المشاعر القومية العربية. و لتحقيق التوازن، تم تسليم كل مؤسسات  الدولة  المدنية إلى البعثيين مقابل  الحفاظ على موقعهم السلطوي الفوقي. و عليه، فإن المركزية السياسية أعاقت بناء الدولة الوطنية، من خلال تعريب الثقافة الوطنية، و فرض  الاغتراب  القسري على المكونات الاخرى ،و  إقصائها،  كشركاء في الوطن، بعد أن إنعكست في ممارسات لاوطنية، كالتمييز ضد الهويات الوطنية الأخرى. و هو الأمر الذي كلف السوريين ثمنا باهظا، بشريا و عمرانيا، حيث لايزال النزيف مستمرا، و لن ينتهي إلا بعد أن تنضج  شروط  قبول الدولة المركبة و الإقرار بأن الشكل المركزي هو المشكلة.

أزمة الثقافة الوطنية:

الثقافة الوطنية في سورية ثقافة اشكالية كونها نتجت عن هيمنة الثقافة المركزية العربية-الإ سلامية المتراكمة تاريخيا. و هذه الثقافة لم تمر بمرحلة التنوير و التمدن. فالذهنية القومية المركزية  افتقرت الى حس التعددية الإثنية و الدينية و المذهبية ،وحاولت قومنة الدولة و المجتمع و أسلمتهما قسريا،  وشكل ذلك تعارضاً مع طبيعة المجتمع السوري التعددي اللامتجانس، وهذا التعارض هو محل خلاف جدلي، ونقاش بين الهويات.

إن أي تحليل موضوعي للثقافة السياسية العربية سيجد أنها أحادية بسيطة خالية من المصطلحات الثقافيةو الحداثوية السياسية المعاصرة، التي ترافق المجتمعات المركبة  كالحكم الذاتي، والفيدرالية، والكونفدرالية واللامركزية السياسية و الإدارية مع أنها حلول إبداعية و وقائية ضد هيمنة هوية على هوية أخرى، و تسلط ثقافة  الأغلبية  على ثقافة الأقلية داخل الدولة الواحدة .و لكي نبقى موضوعيين فإن الذهنية المركزية مشكلة   ثقافية سياسية شرق أوسطية، تتقاطع فيها الذهنيات  السياسية  التركية و الفارسية و العربية و الكردية، وهذه الذهنية  المركزية تشكل خطرا على المجتمعات اللامتجانسة؛ حيث تنتهي إلى استحالة السلم الأهلي و الوطني. وفي الحالة السورية فإن المركزية  عززت تمركز الهوية العلوية على السلطة الفعلية، و أفسح  المجال لهيمنة ثقافة الأغلبية العربية من خلال  التلاعب السيكولوجي بالمشاعر القومية العربية، و أصبح معيار الوطنية وفق مقاييس الطغمة الحاكمة هو إدامة الولاء المطلق للاستفراد بالسلطة، و بالملكيات الوطنية العامة.

 تشترط الوطنية السورية وجود عقد اجتماعي بين مكوناتها بحيث تتوافر في هذا العقد شروط العدالة و السلم الأهلي الاستراتيجي. وللوصول إلى  عقد إجتماعي طوعي عادل بين الهويات يستوجب قبول دولة اتحادية مركبة كحل، باعتباره حل وقائي استباقي لمنع الهيمنة و الاقصاء و التقسيم.

أزمة الثقة  بين  الهويات:

 أزمة الثقة بين الهويات صداع سوري مزمن، مردها ميل  الهويات إلى العيش فوق بعضها البعض أو مجموعة أهلية فوق المجموعات  الأهلية الأخرى،وفق ذهنية  ما قبل  الدولة. و هذا الميل بطبيعته فاشي، لأنه يعاكس الديمقراطية و التعددية و حقوق الانسان الاساسية. إذ أن هناك ثلاثة أشكال ممكنة للعيش: العيش مع بعض، أو بجانب البعض عندما يستحيل الاول، أو وضع جدار بين البعض في حال استحالة  الإثنين الأولين. إن المجازر التي ارتكبت هي اعلان موت العيش مع البعض، و ليس أمام السوريين سوى خيارين: إمّا العيش بجانب البعض، أو وضع جدار بينهم،حيث أن الخيار الاول هو  أحد   الممكنات البراغماتية القابلة للتنفيذ، لكنه  يحتاج  الى  الجرأة السياسية و عقلنة الانتماءات العاطفية، و تخفيض التوترات السيسيولوجية و السيكولوجية، و الحد من تضخمهما لوضع أسس سلم أهلي استراتيجي، وهذا ما لايسمح به التصلب الثقافي و منتجاته من الكراهية و الانتقام.  إن استمرار الحرب قد ينتهي إلى التقسيم، و لكن حدوثه ليس  عملية حتمية لعدم توفر  شروطه، مثلما لاتتوافر  شروط  السلم أيضا، عكس الحرب التي تتوافر  كل شروطها  مع غياب حلول توافقية. و عليه، فإن أي انتصار عسكري لطرف على طرف آخر، أو نجاح المجتمع الدولي على فرض وقف إطلاق النار، لا يمكنه فرض التعايش السلمي، لأن حرب الكل ضد الكل انفجر، أساساً، نتيجة الأزمات الداخلية المذكورة أعلاه. لذا يجب ان  تكون مبادرة السلام  أيضا داخلية، و  يجب أن يأتي الحل من الداخل. وذلك لأن مشروع الدولة الفيدرالية ترافقها عدالة انتقالية، التي هي بمثابة الحل العقلاني المنطقي الذي يتطابق مع التعددية السورية، حيث تتوافر  في  الدولة  الفدرالية الشروط اللازمة لبناء الثقة بين الهويات، و ارتقاء الثقافة الوطنية إلى الحد الذي يمنع أية هيمنة إثنية أو دينية أو مذهبية محتملة.

إن المعارضين للدولة الفدرالية من العروبيين و الإسلامويين  يميلون إلى الهيمنة و الاستفراد تحت وهم العظمة  باسم  الاغلبية العددية و بارانويا التقسيم, من هنا فإنه  على السياسين معرفةأن مفهومي الأغلبية والأقلية عاطلتين قانونيا في المجتمعات  المركبة، لأنها تشجع  الاستفراد و الهيمنة  و الاقصاء. و التجارب الفيدرالية أثبتت أن مفهوم الأغلبية و الأقلية قابل للتطبيق ضمن الهوية المتجانسة الواحدة و ليس  بين الهويات المختلفة.

يبقى أن نقول لمعارضي الدولة الفيدرالية في سورية بأن الدولة الفيدرالية لاتؤدي بالضرورة إلى التقسيم و هناك تجارب فيدرالية تدحض هذه المزاعم.

إن استحالة العيش المشترك تعبد الطريق إلى التقسيم. و هذه  الاستحالة أنتجتها الذهنية الثقافية الأحادية العاجزة عن استيعاب التعددية الإثنية و الدينية و المذهبية و قبولها و التأقلم  معها، و هي نتاج  أزمة ثقافية، منابعها لاتسمح لها بالتنوير، و التمدن. و هذه  الصلابة الثقافية النمطية تعاكس الحلول الابداعية التي تتخطى حدودها المرسومة، فهي تجد في كل حل خارج عن إطارها المعرفي مشكلة، لذا تجد نظرة المعارضين للفيدرالية تشاؤمية سلبية من خلال التركيز على أنها بداية التقسيم، بدلا عن التفاؤلية الإيجابية من كونها بداية الوحدة الوطنية الطوعية. إن هذه الذهنية أحادية الحركة  والاتجاه، كونها لاتملك الجرأة لممارسة النشاط السياسي خارج الصناديق الثقافية  النمطية حيث أن صعوبة التفكير   خارج هذه الصناديق تتقاطع فيه شعوب الشرق الأوسط  سياسيا و ثقافيا، و في هذا التقاطع تتوافر كل شروط الحروب و الصراعات، لأن الكل يرى بأن المشكلة تكمن في الكل الاخر لذلك فهي نزعات شمولية تدميرية متبادلة، متجذرة  في الصناديق الثقافية الشمولية المغلقة باقفال  من  حديد.

و عليه، فإن أولئك الذين حجبوا عن أنفسهم  الضوء و الأكسجين، أن  لا يعاتبوا  الآخرين، أم أن معاتبة الآخرين هو الأسهل دائماً في الثقافات السهلة؟!

إذا أدخلت الفيل إلى حديقتك لا تعاتبه إن أتلف شجيراتها وهدم أسوارها.

yekiti-Europa