مفهوم الأمن القومي
لدى الأنظمة الغاصبة
نواف بشّار عبدالله
في السنواتِ القليلة المنصرمة، وإثرَ احتدام حِدّة الصراعات السياسية والمذهبية الدموية في منطقة الشرق والبلدان العربية، تلك الصراعات التي يتمُّ تغذيتُها والنفخُ في نيرانها من قِبَل أنظمة الحكم في الدول الصناعية الكبرى التي تتحكّم بالقرار الدولي، كثُرَ حديثُ نظامَي القمع والاستبداد في كلٍّ من تركيا وإيران عن ضرورة حماية “أمنها القومي”!.
فتركيا التي يعيشُ فيها أكثرُ من عشرين مليون كرديٍّ على أرض أجدادهم التاريخية قبل غزو الأتراك للمنطقة أيامَ العهد السلجوقي في القرن الحادي عشر بآلاف السنين، تستغلُّ الوضعَ الذي تمرُّ به سوريا والوضع الدولي الذي يتّسمُ بالانفلات والفوضى، وبهدفِ جني ثمار نهاية الحرب فيها ولصرف أنظار الشعب التركي عن الوضع السياسي والاقتصادي المأزومين في البلاد بعدَ تشديد رئيسها الخناق على الحريات العامة والصحافة والإعلام، وتحكمه بمفاصل القرار في الدولة، علاوةً على هاجسه من “القضية الكردية” التي تؤرقه ليل نهار، وأهدافٍ أخرى تدور في مخيلته التسلطية المريضة، تقومُ اليومَ بشنِّ حربٍ عدوانية بربرية غير متكافئة على الشعب الكردي في سوريا بمنطقة عفرين، مستخدمةً أحدث الأسلحة الأمريكية المتطوّرة بذريعة حماية “أمنها القومي”! و بموافقةٍ أمريكية – روسية على خوض هذه الحرب التي يجب أن تُدرًج في لائحة الجرائم ضد الإنسانية وتقديم مرتكبيها لمحاكمَ دولية، متجاوزةً بذلك القانون الدولي الذي يمنع التدخل العسكري في أراضي دولةٍ عضوٍ في الأمم المتحدة، مستهترةً بكل القيم والأعراف الدولية. أي أن الحكومة التركية ومؤسساتُها الأمنية تعرِّفُ استقرار “أمنها القومي” بالإبقاء على الشعب الكردي مستعبداً، محروماً من حقوقه القومية التي كفلتْها وثائق الأمم المتحدة ولوائح حقوق الإنسان وصولاً إلى تذويبه في القومية التركية وإنهاء لغته وثقافته وفولكلوره ووجوده القومي.
إلا أن الغريبَ في الأمر هو أن يحظى هذا العدوانُ برِضى واستحسان العديد من قادة المجتمع الدولي مثل “أمريكا، بريطانيا وغيرهما…” الذين يؤكدون “تفهّمَهم” للقلق التركي وحقها في حماية أمنها القومي! علماً بأن الجميع يعي حقيقة هذا الافتراء ويدركُ زيفَ تلك المزاعم والإدّعاءات التي تلفقُها الحكومة التركية كي تخفي وراءَها هدفها الحقيقي المتمثل بمعاداة الشعب الكردي ليس في تركيا فحسب، بل في كل البلدان التي يعيش ضمن حدودها الدولية دون إرادته، ووأْدِ طموحاته المشروعة في الحرية والمساواة.
فمن المعروف للقاصي والداني، ولدول الغرب قبل غيرها، أن تركيا تبذل قصارى جهدها لمنع إيقاظ الشعور القومي لدى أبناء الشعب الكردي في كردستان تركيا بغية الاستمرار في اضطهادهم واستعبادهم، حيث صرّحَ قادتُها السياسيون علانيةً دون مواربةٍ ودون أيّ خجلٍ بأنهم سوف يمنعون قيامَ أيِّ كيانٍ كردي في أية بقعة من العالم حتى لو كان ذلك في إفريقيا!. وقد ترجمتْ هذه القيادة أواخر العام الماضي أقوالَها إلى أفعال حينما أقامتْ حلفاً غيرَ مقدّس مع حكومتي إيران والعراق، وحاربت طموحات الكرد في إقليم كردستان العراق الذين أجروا استفتاءً محقاً ومشروعاً لتقرير مصيرهم، وتمكنتْ قطعان الحشد الشعبي –الوجه الآخر لتنظيم داعش الإرهابي وقوات الحرس الثوري الإيراني بقيادةٍ مباشرةِ لـ قاسمي سليماني وبدعمٍ سياسي تركي من اقتحام كركوك في ظلّ صمتٍ مريب من جانب أصدقاء الكرد وحلفائهم في محاربة الإرهاب، واستطاع ذلك الحلفُ القلقُ على “أمن بلاده القومي” من ألْحاق إساءةٍ بالغة بالروح المعنوية الكردية وزيادة شعور الكرد بالغبن نتيجة التعامل غير الأخلاقي للمجتمع الدولي وفريق الأصدقاء (!) مع قضيته العادلة، تلك التي يفترض بحالٍ من الأحوال ألا تخضعَ للابتزاز والمساومات أو اعتبارها ورقة ضغطٍ مؤقتة يتم الاستغناء عنها ورميُها بعد تحقيق مصالح آنية محددة!.
وبدلاً من أنْ يتكاتف المجتمع الدولي المعاصر لمحاربة التطرّف والفقر والإرهاب وبناء عالمٍ جديدٍ خالٍ من الظلم والعبودية، والسعي لزيادة رفاهية الإنسان، ووضع ضوابط وقوانين دولية جديدة تنسجم مع المرحلة الحالية تكون ناظمة للعلاقات الدولية، تمنعُ الغطرسة ومنطق القوة في التعامل مع الشعوب والدول، تلك التي تتنافى مع القيم الإنسانية النبيلة، ومحاربة نشر ثقافة الكراهية، ودعوة الجمعية العامة للأمم المتحدة لعقد جلسة خاصة بالقضية الكردية في الشرق الأوسط، تلك القضية التي تمسّ حياة ووجود أكثر من/40/ مليون إنسان يبحثون عن حياة حرة على أرضهم، وحلّها سلمياً وفق ميثاق الأمم المتحدة ولوائح حقوق الإنسان، وعدم الركون إلى معزوفة “الأمن القومي” للدول التي تقتسم بلادهم وتتعاطى مع مطالبهم المشروعة بالمشانق وأسلحة الدمار الشامل وتبيح لنفسها استعمالَ كلِّ المحظورات، والتي باتت نواياها وافتراءاتها مكشوفة للعيان، والعمل على حل قضايا الشعوب المظلومة الأخرى (كالفلسطينيين والأمازيغ والشيشان…وغيرهم) بعيداً عن لغة العنف ولعلعة الرصاص، ها هو المجتمع الدولي يعود مجدداً إلى صمته المريب ويغضُّ الطرفَ عن جريمةٍ أخرى تُرتكَبُ بحقِّ الكرد وهي غزو عفرين من قبل تركيا التي تعتبر من القوى الأساسية في حلف الناتو، مستخدمةً في عدوانها قطعاناً من المرتزقة المأجورين يقودهم حاقدون مأمورون من المخابرات التركية يطلقون على أنفسهم اسم”الجيش الحرّ” زوراً وبهتاناً لتحريرها من أهلها وتسليمها للإخوان المسلمين وجبهة النصرة وغيرهما من القوى التكفيرية التي تحمل الحقد والبغضاء على الشعب الكردي والحضارة الإنسانية وتبتغي إعادة عجلة التاريخ عشرات القرون إلى الوراء. كل ذلك، لقاء مصالحَ متبادلة وتقسيم مناطق النفوذ بين هذه الدول على حساب دماء الشعوب وثرواتها ومستقبل أبنائها!.
وتبقى مواجهة هذه المخاطر والتحديات الخارجية تحتلُّ صدارة المطالب الكردية والواجبَ الأساس لقواه السياسية الفاعلة على الأرض، إذ ينبغي تجاوزَ الحالة التحزبية القائمة على الأنانية التي تفضي إلى الانشقاق والانقسام، ناهيك عن ظاهرة إغداق المال السياسي من جهاتٍ لا تكنّ الودّ لشعبنا إضافة إلى التدخلات المختلفة في الشؤون الداخلية للحركة، تلك التي تنعكس سلباً على أدائها وتدخلُها في صراعاتٍ بينية لا يستفيد منها سوى أعداء القضية. وتقتضي هذه المرحلة العملَ الجادّ والمسؤول لبناء جبهة كردية عريضة بمشاركة واسعة من المثقفين والسياسيين الكرد المستقلين تتفق على المشتركات، والتي يأتي مواجهة التحديات الخارجية في مقدمة أولوياتها، وتعملَ على إعادة الحياة للعلاقات مع القوى والأحزاب الوطنية السورية، تلك العلاقة التي تعرضتْ للمسخ والتشوّه من جانب بعض الفعاليات والشخصيات العربية التي شربتْ من مناهل التطرّف والشوفينية، والتي تجمعُنا معها الهمّ الوطني السوري المشترك بعيداً عن التعالي والانعزالية التي تسعى الجهات التي لا تريد الخير لشعبنا تكريسها لزيادة الشرخ والتباعد في الصف الوطني وخلقَ المزيد من التوجس والريبة بين أبناء الوطن الواحد. فلا مناصَ سوى العمل، لا مناص سوى المزيد من التواصل مع الجميع لبناء أرضية تلتقي عليها كلُّ القوى الوطنية السورية لبناء وطن خالٍ من الظلم والعسف والتمييز, ولا حياةَ مع اليأس!.
27/01/2018