ترتبط ظاهرة الكفاءات الكاذبة في الكتابة ،المتمثلة بخيانة المثقف لقيمه المجتمعية ،ارتباطاً جذرياً ووثيقاً بأزمة القيم ،التي باتت سمة بارزة من سمات مجتمعنا الكوردي المعاصر ،وذلك من خلال العلاقة اللصيقة والوثيقة لذلك المثقف مع السلطات أو مع الوسط السياسي المحيط ،المبنية على المصالح والمزايا أو البحث عن الشهرة بأي ثمن كان ،وبالأخص عبر الشروع في كتابة الأحداث المفبركة و اختلاق قصص وأكاذيب لخداع الجماهير عبر الصحف والإعلام والفضاء الإلكتروني ،أو الظهور عبر شاشات التلفزيون والفضائيات الكوردية والعربية ،دون الكشف عن مهنته الحقيقية في الدعاية والترويج لبعض القوى والاتجاهات السياسية و شخوصها ،وتقمصه لشخصيات متعددة ،تبدو عليها ملامح واضحة من النفاق والتملق والتزلف والتخاذل ،من خلال سعيها المستمر في تغيير آرائها وأفكارها ،حسب مبدأ من يدفع أكثر ،أو من مبدأ الوقوف دوماً إلى جانب الأقوى ،وما أن تنقلب موازين القوى حتى ينقلب عليها ،نتيجةً لطغيان المادة على ما حولها من قيم وأخلاق ومبادئ .
من المؤسف جداً أن نرى هذا الكمّ من انتهازيي الثقافة في مجتمعنا الكردي ،وهذا الكمّ من سوء الأفكار ،الأكثر منها كره وأحقاد ،تنشر تحت عباءة النقد الذي أسيئ استخدامه ،دون أي اعتبار أو تقدير لمستوى التحديات والمخاطر والرهانات المطروحة على شعبنا الكوردي في هذه المرحلة ،ففي الوقت الذي تُعتبر حالة تعدد الأفكار والآراء واختلافها في الوسط السياسي وبين النخب الثقافية ،حالة صحية و ضرورة مرحلية لترتيب البيت السياسي الكوردي ،وفقاً للأولويات التي يراها كل مثقف من زاويته واستناداً إلى رؤيته حول حاجات المجتمع الراهنة ،والتركيز على النقد البناء والهادف الذي يخدم بناء وتطوير حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية في مجتمعنا الكوردي ،من أجل الوقوف على الجوانب السلبية للعمل السياسي داخل الحركة الكوردية ،بغية تصويبها وتوجيهها نحو المسار الصحيح والسليم ،نجد أنفسنا أمام حقيقة بأن الكاتب والناقد ،لا يكذب ولا يضخم ولا يستخدم ألفاظاً مسيئة ،بل يضع يده على الداء بحكمة و مسؤولية ويقوم بتشخيصه تشخيصاً موضوعياً ومنطقياً ،بعيداً عن الأنانية والانتهازية والمصالح الشخصية والحزبية الضيّقة ،حتى لو بقي عاجزاً في البحث عن إيجاد الحلول المناسبة ،لأن الهدف الأساسي له من الإشارة إلى الخطأ هو تصويبه وليس الإساءة إلى صاحبه ،ولكن ما نراه للأسف في وسطنا الثقافي هو العكس تماماً ،وخصوصاً عندما نشاهد بعض الحالات الشاذة في الإعلام الالكتروني الكوردي و في مواقع التواصل الاجتماعي ،مَثَلُ ذلك الكاتب المتربص ،مع فضائيته الوهمية للأخبار الكاذبة والملفقة والتي كادرها إعلاميين افتراضيين من نسج خياله ،إلى جانب معلقين دخلاء على الثقافة الكوردية يركزون في كتاباتهم على جهة سياسية بعينها ،بغرض الإساءة وتضخيم الأمور و تشويه الحقائق ،وبهدف التشهير بذاك الطرف على حساب طرف آخر ،الأمر الذي يعكس بدوره الجوانب السلبية والسيئة لتلك الشخصيات .
إن نجاح وتقدم أي مجتمع ،ترتكز على الأسس السليمة في بناء الفكر الحر الذي لا يوجد ما يملي عليه ما يفعله ،و قد يبدو واضحاً في المجتمعات المتقدمة والديمقراطية ،كيف أن الوسائل الإعلامية المأجورة أو الخاضعة لجهات وقوى سياسية معينة ،مهما بلغت سلطتها أو سلطانها ،تبقى عاجزة تماماً في إغراء المثقف أو الكاتب الحر للانضمام إلى أجهزتها أو قنوات سيطرتها ،حتى رغم الابتزاز المنظم للمثقفين والكتّاب ووسائل الإعلام .
خلاصة القول أن كل التقدم الباهر الذي وصل إليه الإنسان لم يحقق التوازن الأخلاقي لتلك الفئة من المثقفين والكتّاب اللذين تحدثنا عن بعض الجوانب الأخلاقية والمهنية في شخوصهم ،وعن كيفية اهتزاز المعايير والقيم المجتمعية وضحالتها بداخلهم ،وفي هذا الصدد فإن عالم الاجتماع الأمريكي البروفيسور إدوارد شيلز الشهير بأبحاثه حول دور المثقفين وعلاقاتهم بالسلطة والسياسة ،كان قد عرّف المثقف على أنه الشخص المتعلم الذي يمتلك طموحاً سياسياً للوصول إلى مراكز صنع القرار السياسي ،أو من خلال دوره المحوري الحاسم في توجيه المجتمع ،و التأثير على القرارات السياسية الهامة التي تؤثر في المجتمع ككل.
و هنا يبرز بشكل واضح دور المثقف العضوي الفعال ،وحاجة مجتمعنا الكوردي إلى ذلك المثقف الذي يلبس هموم الجماهير ،ويظهر التزامه بالخط السليم ،و يدفع بحركته السياسية والاجتماعية نحو تحقيق الأهداف المرسومة لغد مشرق ،وتوجيهها توجيهاً صحيحاً وسليماً نحو بر الأمان ،في ظل كل المخاطر المحدقة به ،والذي يملك من الإمكانات الأدبية والثقافية ،ما يمكّنه من استخدامها في مراجعة الماضي والاستفادة من تجاربه ،واستشراف المستقبل ،بهدف إنارة الطريق أمام مجتمعه ،وبالتالي يكون جدير بقيادة الجماهير ،ويكون له تأثير إيجابي في حركته السياسية ،على خطى المفكر والفيلسوف الايطالي غرامشي ،الذي يُعّد بجدارة رمز حقيقي للمثقف العضوي من خلال دوره الرائد في تغيير المجتمع ،فقد استطاع بحكمة وإبداع الجمع بين الثقافة والسياسة والقيادة مع النضال ،خلال مسيرته النضالية التي قضى منها أكثر من عشر سنوات في سجون الفاشية الايطالية ٬ومات بعد خروجه من السجن بأيام قليلة ،وهو في مقتبل العمر .