الإرهاب ، الشعب ، الثورة ، المبادئ فوق الدستورية ، حق تقرير المصير و غيرها من المفاهيم
و المصطلحات الشائعة التي يجري لفظها و تداولها و الخوض فيها بكثرة سواءً في أروقة السياسة الدولية و محافلها أو في أبحاث السياسة و القانون و حتى في الأوساط العامة دون أن يكون لها في حقيقة الأمر معنىً أو مدلول ثابت و واضح يمكن الاستناد إليه و التعويل عليه في بناء الأحكام و الأسس تبعاً لها .
و بقدر ما يكون الأمر حقيقةً و واقع حالٍ و يثير الكثير من الغرابة و بالذات إذا ما علمنا إن غموض تلك المفاهيم أو بقاءها كذلك يفضي الى آثار و نتائج متفاوتة النسبة تصل حد الكارثة أحياناً ، بقدر ما هو واقع مقصود و منفذ للكثير من الساسة و السياسات في العالم كما سنأتي على تفصيله قدراً ما تباعاً .
يصل إلى علمنا جميعاً أن كل مفهوم من تلك المفاهيم يرتّب قانونياً و سياسياً و اجتماعيا أيضاً جملة كبيرة من الالتزامات و الواجبات نحوها و يبني كما أسلفت آثاراً تصل حد تغيير الواقع المجتمعي برمّته و بالتالي الخارطة العالمية بمستوى زوال دول و مجتمعات و نشوء أخرى .
لتلك الأهمية كان الذهول إزاء عدم إيلاء الدول أو المؤسسات الدولية الأهتمام المرجو أو الرغبة في وضع حدّ للكثير من المشاكل و الجدل القائم و الناجم عن هذا الأمر .
و بما أننا نتحدث هنا في أزمة الغموض هذه ، كان لا بدّ لنا أن نكون و اضحين في طرح هذه المسألة لا غامضون مثلها .
و لعل الشعب الكردستاني بدقيق العبارة في كردستان بأجزائها الأربعة حسب الخارطة الحالية كمثال هوأبرز و أكبر ضحايا جملة الخلل في تلك المفاهيم و المصطلحات و غموضها.
و في الحقيقة .. لا ننكر إطلاقاً وجود مساعي و أبحاث و مؤتمرات و لجان و نقاشات و ما الى ذلك و بمختلف المستويات في هذا الشأن و لكنها تبقى جميعها دون المستوى و الطموح بكثير مقارنةً بالأهمية الشديدة للموضوع ، بغض النظر عن أسباب و خلفيات ذلك لا سيما السياسية منها بالدرجة الأولى كما أسلفنا الذكر ، بدليل غياب معيار جلي حتى الآن بعيداً عن الالتباس في كل تلك المفاهيم حديث موضوعنا هذا .
كما لا ننكر في الآن ذاته مشقّة المسألة و صعوبتها إلا أن هذا لا ينفي البتّة وضع أسس عريضة و رئيسة أكثر دقة و تأكيد لمتطلبات كل مفهوم و التي تمّكن قدر المستطاع من الوقوف على سلامة توصيفها.
فما زلنا أو مازالت الشعوب و حتى كبار رجال القانون و السياسة و بتجرّد عن الغايات ما زالوا في خلافٍ محتدم بين ما يكون إرهاباً و ما يكون كفاحاً مشروعاً و بين مبادئ الدستور و ما فوق الدستور من مبادئ و ما بين الشعب و الأمة و ما بين الاستقلال و الانفصال الخ .
و للتوضيح أكثر لننظر إلى التخبّط على مستوى الدول و علاقاتها في توصيف و تصنيف بعض المنظمات بالإرهاب من عدمه مثالاً . كحزب العمال الكردستاني و ما إذا كانت حركة إرهابية أم حركة مقاومة وتحرر مشروعة و حتى على مستوى إرهاب الدول أو دعمها للارهاب ، فتركيا و ايران اللتان ربما يتفق الكثيرون على ممارستهما لأعمال إرهابية على شعبيهما و دعمهما للارهاب خارج الحدود ما زالتا في ظل غياب معايير واضحة للارهاب خارجتان عن المحاسبة الواجبة على ذلك الأساس.
ولكي نعطي كلاً من القارئ و الموضوع حقهما في الوقوف أكثر على حقيقة المسألة بعيداً عن أي تشتت محتمل في الأفكار و وصولاً للغاية المنشودة من البحث سنسعى للخوض بشيء من التفصيل في مفهوم الشعب كأحد أبرز تلك المفاهيم موضوع الإشكالية القائمة و نستعرض أهميته و إنعكاساته على الأكراد كقومية .
لنقف أولاً عند مفهوم الشعب اجتماعياً و سياسياً :
الشعب اجتماعياً هم مجموعة الأفراد الذين يعيشون على أراضي الدولة و ينتسبون إليها بنسب الجنسية و هؤلاء يطلق عليهم تسمية المواطنين إن كانت إقامتهم على أراضي الدولة و تسمية الرعايا إن كانت إقامتهم خارج أراضي الدولة .
أما الشعب سياسياً فهم الذين يتمتعون بحقوق ممارسة الحقوق السياسية في الدولة التي ينتمون اليها برابط الجنسية كحق الانتخاب مثالاً و بالدرجة الأولى .
و يبدو لنا من خلال المفهومين أن الشعب بمفهومة الاجتماعي أعم و أشمل من الشعب بالمفهوم السياسي لأن الشعب بالمعنى الأخير يستبعد فئة من الشعب بالمدلول الاجتماعي عن حق ممارسة الحقوق السياسية لاعتبارات مركزهم القانوني في الدولة كفاقدي الأهلية و مرتكبي بعض الجرائم .
و أكثر ما يهمنا من هذين التعريفين و وفقهما هو أن كل دولة لها شعب يتمثل في مجموعة المنتمين إليها برابط الجنسية دون إعتبار لدينهم أو لغتهم أو قوميتهم أو مذهبهم أو طائفتهم و ما الى ذلك ، وسنداً لذلك نلاحظ و بوضوح تام درجة الخلط الشائع و الشاسع بين المفهوم أو التعريف من ناحية و بين ما جرت العادة أو يجري فهمه في واقعنا بدءاً من حديث الشارع وصولاً الى أصحاب الاختصاص و الدول من ناحيةٍ أخرى..
فالشعب لصيقٌ بالدولة لا باللغات و الأقوام و غيرها ، فهناك شعبٌ أمريكي و شعبٌ فرنسي و شعبٌ ألماني و بالمقابل ليس هناك شيء اسمه شعب إنكليزي او شعب عربي او شعب كردي حتى ، و ما قولنا للشعب الفرنسي بأنه شعب إلا لإنتمائه الى بقعة جغرافية و دولة تسمى بفرنسا ، لا لإنتمائه الى اللغة الفرنسية أو مجموعة المتحدثين بالفرنسية ، وسنداً لذلك أيضاً من غير الممكن القول بوجود شيء اسمه الشعب العربي في سوريا أو الشعب الكردي في سوريا أو حتى الشعوب السورية كما يُشاع حديثاً ، و دائماً مصدر استنباطنا هو ما تم شيوعاً على تعريف الشعب و مفهومه أعلاه ، علماً أن مرادف الكلمة في اللاتينية هو(people) بمعنى الناس كما هو متعارف لدينا .
و هذه النتائج قد تبدو للكثيرين غريبة و غير مقبولة للوهلة الأولى لكنها بقناعتنا ليست وهماً أو بدعة و إنما تحليل حتمي و واضح و دقيق من عبارات تفسّر مفهوماً تتفقون علي معانيها أي على معاني تلك العبارات..
و على ذات الأساس يمكننا نسف الكثير مما جرى و يجري من جدل واسع و عقيم بصورة عامة حول مفهوم الشعب و بصورةٍ خاصة حول كل ما يتم التأسيس له و المطالبة به تحت سقف مسميات الشعب العربي أو الشعب الكردي أو الشعوب السورية .
فمن البديهي أن الأساس الخاطئ مآله نتائج خاطئة ، و غياب فهمنا للمفهوم أو حتى عدم تداركنا لتصحيح المفهوم أو إزالة اللغط حوله سيؤدي الى فهمها بالحالة الموجودة و المجردة و يستتبع ذلك بناء غير سليم أو بعيد عن الإرادة الحقيقية لصلب كل مفهوم و بالتالي آثار غير سليمة أو مجحفة بحقوق فئة أو فئات قد تكون كارثية .
هذا من ناحية . من ناحيةٍ أخرى لنسقط ذلك و وفق المفهوم السائد على الحالة الكردية . و مركزهم الاجتماعي و السياسي و القانوني الحالي .
في ظل تلك الاعتبارات فإن الأكراد بواقع انتمائهم الحالي كخارطة سياسية الى كل من تركيا و سوريا و العراق و ايران يمكن اعتبار كل فئة منهم جزءاً من الشعب الذي يربط فيما بينهم الجنسية الواحدة . كفئة الأكراد المنتمية للشعب الايراني مثالاً ، أقولها وفق المفهوم و وفق الخريطة و الواقع السياسي القائم بصرف النظر عن موقفنا حيال ذلك .
و تبرز الأهمية الكبرى من وصولنا إلى هكذا تفصيل و فرز للمسألة إلى أن المطلوب كردياً هو انطلاقة سليمة في المطالبة بحقوقه التاريخية و الراسخة تبدأ من اعتبار الأكراد يؤلفون إلى جانب السكان الأصليين من الأقوام الأخرى و الذين يربط فيما بينهم جميعاً انتماء أصيل إلى بقعة جغرافية و هي كردستان اعتبار هؤلاء جميعاً الشعب الكردستاني و ليس الكردي .
و من هذا الأساس يكون سعي كل جزء من أجزاء كردستان الملحقة بتلك الدول في المطالبة بحقوقة كشعب كردستاني . و يكون ذلك السعي و تلك المطالبة وفق نمط ديمقراطي سلمي مشروع رسم خطوطه و منهجه منظمات حقوقية و دولية كبرى كهيئة الأمم المتحدة و من قبلها في المسمّى عصبة الأمم و صنفتها ضمن أسمى الحقوق و أكثرها قدسية (المادة ٥٥ الفصل التاسع من ميثاق الأمم المتحدة )لأنها جاءت بعد تجارب مريرة للشعوب مع الظلم و الاستبداد و التمييز العنصري و ما الى ذلك و كانت مناسبة و محطّ أولويات بنود إعلانات الحريات و حقوق الإنسان العالمية كالاعلان الأمريكي 1776 و الإعلان الفرنسي للحريات و المواطن 1889 و وثيقة الحرية في جنوب افريقيا ( كيب تاون ١٩٥٥ )و غيرها . حتى أصبحت فيما بعد بنوداً ملزمة للدول في ميثاق هيئة الأمم .
و المنهج المطلوب سلوكه بالصورة أعلاها هي عبر ما يسمى حق الشعوب في تقرير مصيرها . كحق مقدس و سام كما ذكرنا ،و آبعد من ذلك فإن الميثاق الأممي اعتبره أساس الحقوق ، و يقوم على منح الحق للفئات التي تربطها روابط و انتماءات الجغرافيا و اللغة و الثقافة أو القومية وما الى ذلك في تقرير مصيرها و ترك الحرية لها في اختيار النظام السياسي و شكل و نظام الحكم الذي تريده .
و قد كانت بدايات ظهور هذا المبدأ ذات أهداف و طابع قومي الى أن اتسع التوجه وبقي الأساس هو رابط وحدة البقعة الجغرافية ، ولا بد أن نشير الى أن المبدأ اصطدم بالكثير من المشاكل و الصعوبات التي فرضتها العوامل السياسية و التجارة و الاقتصاد بدرجة أكبر في البداية تمثلت أبرزها مثالاً في مخاوف قائمة على أن من شأن فتح الباب على مصراعيه أمام هذا المبدأ ظهور دويلات كثيرة صغيرة تعرقل حركة التجارة و منافذها ، لذا حاولوا الاستعاضة عن المبدأ ببعض المفاهيم والنظم مثل الفدرالية و الكونفدرالية و الحكم الذاتي أو من خلال تشكيل كيانات تتدارك سلبيات و عواقب ذلك المبدأ كالاتحاد الأوربي . و لكن من الضروري أن نعرف ان كل ذلك لم يمنع من بقاء ذلك المبدأ حقاً أساسياً في ميثاق الأمم المتحدة و القانون الدولي . و ما يحدث حقيقةً و ما يعنينا بالذات هو أن الدول ذات القوة و النفوذ ما زالت في ظل إشكالية غموض المفاهيم بأسبابها المختلفة ما زالت تتحكم وفق مصالحها بتفسير تلك المفاهيم و تتحكم باعتمادها من عدمه .
كما لا بد من ذكر سبب غاية في الأهمية من أسباب تضييق الخناق على هذا المبدأ و هو أن لجوء الدول الى الحلول البديلة لحق تقرير المصير كالفيدراية و غيرها كم ذكرنا خلق كيانات إما هشّة لم تستطع مكوناتها الانسجام او تحقيق التوازن المطلوب بينها و غير ذلك من الأسباب و إما مهددة نتيجة وجود نزعة لدى جزء معين و ميل للاستقلال لأسباب خاصة و لا سيما اقتصادية غالباً ،كل ذلك جعل أغلب تلك الدول التي تعاني من تلك المشكلة صامتة و أحياناً محاربة لحق الشعوب في تقرير مصيرها و بالذات اذا ما علمنا أن تلك الدول هي دول عظمى ، فالولايات المتحدة الامريكية ليست بمنأى عن مواجهة تصاعد رغبة بعض الولايات بالاستقلال مثل كاليفورنيا و كذلك روسيا و ألمانيا و غيرها و هذا أحد أهم الأسباب التي تدفع الكثير من الدول لا تدعم مثالاً استقلال إقليم كاتالونيا و أقليم كوردستان و تضطرها لممارسة نفوذها في الأمم المتحدة وعلاقاتها الدولية ضد هذا التوجه.
و بناء على كل المعطيات السابقة نصل الى خلاصة و نتيجة مفادها أن مبادئ العدل و المساواة و الحرية و غيرها الواردة و المصونة بموجب المواثيق العالمية و القانوة الدولي تمنح مجالاً لا يدعو للشك بحق المجتمعات و الفئات المنتمية الى بقعة جغرافية ما و تربطها روابط معينة لها الحق في تقرير مصيرها سواء بالبقاء ضمن الكيان السياسي القائم بعد أن تتفق مكونات ذلك الكيان فيما بينها على شكل و نظام الحكم ( فدرالي ، مركزي ، بسيط ،مركب ،جمهوري ، ملكي ، رئاسي ، برلماني الخ ) ، و سواء بالاستقلال و الالتحاق بكيان سياسي جديد أو بدولة أخرئ حتى ، ولا يقف عائقاً أمام تلك الفئة التي ترغب في إنشاء كيان سياسي جديد إدعاء البعض بعدم وجود أساس تاريخي لذلك الكيان ، و ما قولي هذا إلا رداً على بعض الأصوات التي تنكر على الأكراد مثالاً حقوقهم التاريخية او تنكر وجود كردستان .، إذ يكفي أن تكون هناك فئة تنتمي بصورة أصيلة الى بقعة جغرافية ما و بروابط كافية و تتوافق بنسبة ما رغبة هذه الفئة على النظام السياسي و الكيان الذي تريده .و يتم التعبير عن تلك الرغبة بصورة حرة و ديمقراطية اعتمدتها الدول تحت مسمى الاستفتاء الشعبي ، كالذي حدث مؤخراً في كل من إقليم كاتالونيا و إقليم كردستان العراق و كانت نتيجتهما تحقق النسبة الكافية لمنح الحق في الاستقلال و إنشاء كيان سياسي أو دولة وليدة.
كمؤشر و تعبير على أن الدولة التي استقلوا عنها لم تلبي طموحا و تطلعاتها في الحقوق و المساواة و غير ذلك و بمبررات دامغة كثيرة ليست مضطرة أصلاً إلى تقديمها و تبيانها .
و أخيراً …لا يسعنا ألا القول أن مسألة الإبقاء على ضبابية المفاهيم بالرغم من أنها كما سبق و أوضحنا مخططة و مقصودة بغية التحكم بها و توجيهها وفق المصالح و لا سيما مصالح الدول العظمى أكثر من كونها عجزاً في إيجاد الحلول ،إلا أن ذلك لا يعني الاستسلام أمامها و الخضوع للأمر الواقع ، بل يجب خلق المناسبات و بمختلف المستويات و العمل على كل مامن شأنه تلافي هذه العيوب موضوع بحثنا هذا و تقع المسؤولية الكبرى في هذا الصدد على عاتق المختصين في مجال السياسة و القانون بالدرجة الأولى أفراداً و منظمات و أحزاب و مؤسسات المجتمع المدني . لممارسة و انجاز ما يمكن من دراسات حول هذا الموضوع و بالتالي خلق نوع من الضغوطات عبر إحراج و فضح ممارسي هذا النهج و سياسة المكاييل هذه من الدول بغية ثنيها عنها قدر الإمكان أو التخفيف منها بإيجاد بعض الحلول ، كما يمكن لبعض الدول التي ترفع بحقّ شعارات المساواة و الديمقراطية و حقوق الانسان أن يكون لها دور فاعل و مميز في هذا المجال .