في قرار لها صدر بتاريخ 20 تشرين الأول 2018 ، رفضت المحكمة الأوربية لحقوق الأنسان النظر في 21 شكوى تقدم بها عدد من أهالي عفرين الذين كانوا عرضة لانتهاكات خطيرة لحقوقهم الأساسية المكرسة في الاتفاقية الأوربية لحقوق الأنسان، من قبل الجيش التركي والجماعات المسلحة التي تعمل تحت أمرته  في نطاق عملية “غصن الزيتون”.

أثار قرار المحكمة استياء كبيرا لدى الضحايا والراي العام وفسروكأنه يشكك في شرعية شكواهم و مصداقية مظلوميتهم مع إنه قرار اجرائي شكلي لا يبت بفحوى أوبمضمون  الدعوى، بل يقتصر على رفضها  لعدم استيفائها للشروط الإجرائية المنصوص عليها في الاتفاقية الأوربية لحقوق الأنسان والبروتوكولات الملحقة بها.

في الحقيقة تمارس المحكمة الأوربية لحقوق الأنسان مراقبة صارمة للتأكد من استيفاء الشروط الإجرائية، باعتبار هذا التدقيق يشكل الوسيلة الوحيدة التي يحميها من تراكم عشرات الآلاف من الشكاوى التي تنهال عليها كل عام.

ففي بداية عام 2017 بلغ عدد الشكاوى الفردية التي سجلت في ديوان المحكمة 79.700 شكوى، تم رفض مايقارب 95% منها لعدم استيفاء الشروط ، و في عام 2016 تم دراسة ما يقارب 38505 شكوى، رفض منها 36579.  

فما هي هذه الإجراءات والشروط التي لابد من الحرص عليها لضمان قبول أي دعوى؟

تنص المادة 34 من الاتفاقية الأوربية لحقوق الأنسان على أنه “يمكن للمحكمة النظر في أي مذكرة تقدم لها من قبل كل شخص أو مجموعة من الأشخاص أو منظمة غير حكومية، تدعي أنها ضحية انتهاك حق منصوص عليه في الاتفاقية أو البروتوكولات الملحقة، اقترف من قبل أحد الدول الأطراف”.  

المادة 35 تنص على أن المحكمة لا يمكن لها البت بأي دعوى الا بعد استنفاذ طرق التقاضي الداخلية وفقا لما ينص عليه مبادئ القانون الدولي المعترف بها. وخلال مدة لا تتجاوز الستة أشهر من تاريخ القرار الداخلي المبرم أو الغير قابل للطعن.

من هنا فاذا تمعنا النظر في المادتين المذكورتين يمكننا القول بأن الشروط الإجرائية المطلوبة يمكن تصنيفها في ثلاث فئات:

  • الشروط المتعلقة بمقدم الشكوى
  • الشروط المتعلقة باختصاص المحكمة
  • الشروط المتعلقة بمضمون الدعوى

  1- فيما يخص مقدم الشكوى: استنادا الى أحكام المادة 34 يمكن تقديم الشكوى من قبل اي شخص طبيعي أو معنوي غير حكومي أو من قبل مجموعة من الأشخاص.  ولا يشترط أن يكون الشخص من رعايا احد الدول الأوربية ولا أن يكون مقيما فيها، فالشكوى يمكن تقديمها بغض النظر عن جنسيه الضحية أو مكان اقامتها أو وضعها الشخصي والعائلي.

المعيار المعتمد هو وجود انتهاك لحق أساسي تضمنه الاتفاقية الأوربية مثل حق الحياة ،حق الأمان، منع التعذيب والمعاملات المهينة، حظر الاعتقالات التعسفية، حق الملكية وصيانة الأموال، حرية التعبير والاعتقاد الخ…

 بالنسبة لتحديد الضحية ، فأن المحكمة الأوربية، بخلاف غالبية  القوانين الوطنية أو الداخلية  للدول الأعضاء تتبنى معيارا موسعا لتعريف الضحية. وهي تعتبر أنه يوجد نوعان من الضحايا يحق لهما مقاضاة الدولة المسؤولة عن الانتهاكات: الضحية المباشرة: وهي الشخص الذي أصابه الضرر مباشرة   في نفسه أو في امواله  كالاعتقال والتعذيب ومصادرة أو تدمير أو الحاق الأضرار بالأموال والممتلكات. والضحية الغير مباشرة: وهو الشخص الذي أصابه ضرر غير مباشر نتيجة انتهاك حق أساسي لأحد أفراد أسرته المقربين. وهنا أيضا تعتمد المحكمة  معيار واسع لتحديد أعضاء الأسرة المقربين اذ  تشمل الآباء والأبناء والزوجة/الزوج والأشقاء  وحتى الأعمام وأبنائهم .

ففي احدى قراراتها:  قضية ياشار ضد تركيا 2/9/1998  قبلت المحكمة الشكوى المقدمة من أبن أخ الشخص الذي قتل معتبرة إياه ضحية لمقتل عمه. كما أن المادة 36 من الاتفاقية الأوربية لحقوق الأنسان تسمح للضحية بتوكيل محامي للقيام بكل الإجراءات بدلا عنها بموجب توكيل خطي وفق المادة 45.

 2- بالنسبة للشوط المتعلقة باختصاص المحكمة:  لابد من التنويه الى أن المحكمة الأوربية لا تنظر الا في الدعاوى الموجهة ضد الدول الأعضاء في المجلس الأوربي وعددهم حاليا 47 دولة ( المجلس الأوربي يختلف عن الاتحاد الأوربي) وعلى أن تكون الدولة المعنية  قد قبلت بتحكيم المحكمة أي وقعت على البروتوكول 9 و11 اللذان ينصان على السماح  لمواطنيهما بمقاضاتها أمام المحكمة الأوربية. بالنسبة لتركيا فقد وقعت على اتفاقية حقوق الأنسان في 13 نيسان 1950 وقبلت التقاضي أمام المحكمة بتاريخ 22 كانون الأول 1990. وهي أفضل “زبون”  لدى المحكمة الأوربية اذ أنها تحتل منذ عدة سنوات المرتبة الأولى في عداد الدول التي تم ادانتها نتيجة انتهاكات خطيرة لحقوق الأنسان.

الجدول الاتي الموضوع من قبل المحكمة  يبين الدول المتصدرة للانتهاكات بين عامي 2004  – 2011 وعدد الأحكام التي صدرت ضد كل منها وعدد الدعاوى التي تم حتها بالتراضي. مع التنويه الى أن المحكمة الأوربية غارفة تحت وطأة الدعاوى التي تتهافت اليه ضد تركيا خاصة منذ محاولة الانقلاب في 15/7/2016 اذ تجاوزت في عام 2017  عدد الشكاوى المسجلة   33000 قضية

en 2004 :
اسم الدولة عدد الأحكام ضدها عدد المصالحات
Turquie 154 10
Pologne 74 4
France 59 4
Italie 36 1

en 2005 :
اسم الدولة عدد الأحكام ضدها عدد المصالحات
Turquie 270 6
Ukraine 119 0
Grèce 100 1
Russie 81 0

en 2006 :
اسم الدولة عدد الأحكام ضدها عدد المصالحات
Turquie 312 10
Ukraine 119 1
Slovénie 185 1
Pologne 107 0
Russie 96 0

en 2007 :
اسم الدولة عدد الأحكام ضدها عدد المصالحات
Turquie 319 4
Russie 175 11
Ukraine 108 0
Pologne 101 0
Roumanie 88 3

en 2008 :
اسم الدولة عدد الأحكام ضدها عدد المصالحات
Turquie 257 1
Russie 233 0
Roumanie 189 0
Pologne 129 1
Ukraine 110 0

en 2009 :
اسم الدولة عدد الأحكام ضدها عدد المصالخات
Turquie 341 0
Russie 210 2
Roumanie 153 2
Ukraine 126 0
Pologne 123 0

en 2010 :
اسم الدولة عدد الأحكام ضدها عدد المصالخات
Turquie 228 0
Russie 204 0
Roumanie 135 0
Ukraine 107 0
Pologne 87 0

en 2011 :
اسم الدولة عدد الأحكام ضدها عدد المصالحات
Turquie 159 0
Russie 121 0
Ukraine 105 0
Grèce 69 0
Roumanie 58 0

ويشترط أيضا لتدخل الدعوى في اختصاص المحكمة، أن يكون الانتهاك قد وقع ضمن الأراضي التي تخضع لسيادة قضاء دولة موقعة على الاتفاقية . وهنا تكمن الصعوبة اذ أن الانتهاكات وقعت في مدينة عفرين وضواحيها وهي أراض سورية تخضع لسيادة الدولة السورية والتي ليست عضو في المجلس الأوربي؟ هذه الصعوبة لابد من طرحها وتجاوزها وهو أمر ممكن مع أن القرار النهائي يعود للمحكمة  لتجاوز هذه العقبة ، لابد للمشتكي من أن يساند بالبراهين والادلة (وفق القواعد المعمول بها، تقديم الأدلة في هذا المجال يقع على عاتق المشتكي)  أن عفرين في التاريخ الذي حصلت فيه الانتهاكات كانت تخضع  لسيادة الدولة التركية. وأنه يمكن اعتبارها وفق قواعد القانون الدولي “مستعمرة تركية” خاضعة لسيطرتها الفعلية. وهو أمر غير مستعصي اذ يوجد عدة أدلة تبرهن على فرض هذه السيادة وعلى أن الجيش التركي منذ 18 آذار 2018  وحده الآمر الناهي في عفرين ( مع عدم نسيان العدد الكبير من الانتهاكات تم اقترافها منذ بداية عملية غصن الزيتون في 20 كانون الثاني 2018)  نذكر من الأدلة المتوفرة  على سبيل المثال لا الحصر: الصور والفيديوهات التي تبين أن الجيش التركي بمجرد دخوله لعفرين قام برفع العلم التركي على عدة مباني  حكومية، ، اعتقال العديد من الأشخاص مباشرة من قبل الجيش التركي وهو في زيه النظامي، الصور التي تبين انتشار جنود و آليات عسكرية كالدبابات والمدرعات التركية  في أحياء عفرين، توزيع هويات وكتب مدرسية تحمل العلم التركي، التعامل بالعملة التركية  الخ…ويجدر الاشارة هنا الى أن هذا الموضوع ليس بغريب على المحكمة الأوربية  ولا حتى على الدولة  التركية نفسها. فقد قبلت شكوى تقدمت بها مواطنة  قبرصية ضد تركيا لمصادرة عقارات لها تقع في شمال جزيرة قبرص، و معتبرة اياها سلطة احتلال تمارس سيادتها الفعلية على شمال الجزيرة. يوجد عدة اجتهادات بهذا الصدد ولابد من الاشارة اليها في المذكرة التي يتم تقديمها للمحكمة لأن الاستناد على هذه  الاجتهادات وتقديم البرهان على التشابه بين الوضعين، يضاعف فرص النجاح.

3 –بالنسبة للشروط المتعلقة بمضمون الدعوى: كما نوهنا له  سابقا  قبول أي دعوى، يتطلب وجود انتهاك لحق أو حرية مكرسة في الاتفاقية وأن يكون هذا الانتهاك من مسؤولية دولة عضو. ولكن رغم هذا فأن الفرد لا يمكن له، حسب قواعد القانون الدولي، اللجوء مباشرة الى القضاء الدولي، بل يترتب عليه  أن يقاضي دولته أولا امام محاكمها ووفق قوانينها الى أن يستنفذ كل طرق التقاضي الداخلية . وفقط عندما لم يتمكن من الحصول على حقه كاملا أو لم يصل الى ما يصبو اليه، يمكنه بعدها اللجوء الى القضاء الدولي. هذه القاعدة معروفة باسم مبدأ “التكامل”  (subsidiarité)    

وقد أشارت محكمة العدل الدولية في لاهاي في قرار لها بتاريخ 12 اذار 1959 بشأن خلاف بين الولايات المتحدة وسويسرة أن هذا المبدأ المستند الى القانون الدولي العرفي، ينبع من التزام وواجب الدولة باحترام حقوق الأنسان و حماية حقوق مواطنيها. لهذا  يقع عليها بالدرجة الأولى مسؤولية اصلاح الوضع  وواجب معاقبة الانتهاكات ،   في حال لم تؤدي الدولة واجبها ولم تف بالتزاماتها، يمكن لمواطنها اللجوء الى القضاء الدولي المتمم لينصفه.

اذا وفق القاعدة كان على المدعون من أهالي عفرين تقديم شكاواهم أولا الى المحاكم التركية، مستعينين حسب الحاجة بمحاميين أتراك وأن يستنقذوا كل طرق الطعن المنصوص عليها في القوانين التركية، وفي حال عدم حصولهم على حقهم، التوجه بعدها الى المحكمة الأوربية خلال مدة لا تتجاوز الستة أشهر من صدور الحكم المبرم أو النهائي.

ولكن لكل قاعدة استثناءاتها.   وقاعدة استنقاذ طرق التقاضي الداخلية لها استثناءاتها نظرا لطبيعة النزاعات  المتعلقة بحقوق الأنسان وخاصيتها. لهذا فان المحكمة الأوربية  تطبق هذا المبدأ بمرونة. و يمكن لها  اعفاء

الضحية من اللجوء الى المحاكم الوطنية عندما لا تتوفر من الناحية النظرية والعملية وبدرجة عالية من اليقين طرق مقايضة تكفل انهاء الانتهاك وجبر الضرر. أوعندما يكون نجاح الدعوى امرا ميؤوسا منه مسبقا ( قرار سيدوجفيك / إيطاليا و ساس / فرنسا)   او عندما يكون الوصول الى هذه المحاكم امرا عسيرا أوغير ممكنا للمدعي لأسباب مختلفة تقدرها المحكمة الأوربية. مع العلم أن الحدود الدولية الفاصلة لا تشكل بحد ذاتها عقبة. تقييم الصعوبة وفرص النجاح لا تقاس وفق معايير شخصية (سوبجكتيف) بل لا بد من معايير موضوعية (اوبجكتيف) ترتكز على  معطيات واقعية ومنطقية يقدمها المدعي للمحكمة الأوربية  ليبرر سبب عدم استنفاذه لطرق المقايضة الداخلية قبل  اللجوء اليها. المحكمة تدرس وتقرر كل حالة على حدة رغم وجود معايير مشتركة. ففي احدى اجتهاداتها : دعوى أكديفار ضد تركيا  رقم 21893/93 بتاريخ 16 أيلول 1996 قبلت المحكمة النظر قي الدعوى رغم أن المدعي عبد الرحمن اكديفار لم يحترم شرط استنفاذ طرق التقاضي الداخلية. وبررت قرارها بضرورة الأخذ بعين الأعتبار الوضع الشخصي للمدعي والوضع السائد في ذاك الوقت من الناحية الحقوقية والسياسية في مناطق جنوب  شرق تركيا. في القضية المذكورة علل اكدفار مع 7 من افراد عائلته عدم لجوئهم  الى القضاء التركي بسرد الأسباب التي ثنتهم عن ذلك وهي  أن منازلهم في مقاطعة دياربكر قد أحرقت عمدا من قبل الجندرمة التركية انتقاما لهجوم شنه  ال ب ك ك على مخفر للجندرمة في تلك المنطقة .وأن القضاء التركي لم يسبق له و ان اعترف بمسؤولية الجندرمة عن انتهاكات مماثلة كثيرة  اقترفت في جنوب شرق تركيا  وبان الدولة لم تقم بأي تحقيق مستقل لجمع الأدلة بهدف تقديمها للمحاكم لتثبت بأنها غير راضية عن ممارسات موظفيها طبعا اذا كانوا تصرفوا خارج أوامر السلطات،  وبانه يتعثر عليهم إيجاد شهود عيان كون الشهود يخشون انتقام الجندرمة اذا ما ادلوا  بشهادتهم ضدها،  وانهم نتيجة سلبهم أموالهم وحرق منازلهم،  ليس لديهم الإمكانيات المادية الازمة لدفع نفقات المحمي والمحكمة.. لهذه الأسباب مجتمعة فاتهم لم يستنقذوا طرق المقاضاة الداخلية التي تبدو جليا في هذه الحالة وبشكل شبه أكيد أنها غير مجدية.  المحكمة اعتبرت الحجج كافية وقبلت النظر في الدعوى رغم عدم استيفاءا لشروط ، بل أنها قلبت عاتق تقديم الدليل  على الحكومة التركية  بدلا من المدعي  لكي تبرهن على  أنها تمتلك سبل تقاضي فعالة ونزيهة كان يمكن لها أن تنصف اكدفار وتعاقب مرتكبوا الأنتهاكات. طبعا الدولة التركية لم تتمكن من ذلك وتمت ادانتها في هذه القصية.

بالتأكيد النجاح بأقناع المحكمة الأوربية لحقوق الأنسان النظر في شكاوى أهل عفرين دون ارغامهم اللجوء مسبقا الى القضاء التركي، امرا ليس بالسهل. فرغم وجود اجتهادات عديدة الا أن المحكمة ترجح دراسة كل ملف على حدة والأخذ بعين الاعتبار خصوصيات كل حالة. الانتهاكات الفظيعة والمعاناة الرهيبة التي يعيشها أهل عفرين تتطلب بذل كل الجهود والمحاولات . وكما يقول المثل الفرنسي من لا يحاول شيء، لا يحصل على شيء.

الدكتورة في القانون الدولي : سيفي إيزولي

  

yekiti