في بيت قروي كانت تعيش عائلة مؤلفة من ثلاثة أطفال وأم وأب مريض، ومنذ الصف الأول
الابتدائي، اعتاد أصغرهم سناً على الذهاب إلى المدرسة صباحاً، والتناوب بعد الظهر مع إخوانه على رعي الماشية والعمل في الحقل الزراعي.كان كتابه لا يفارقه إلا نادراً، وهو يصاحب أغنامه القليلة بين سهول ووديان القرية،حتى وإن لم يتوفر له الوقت الكافي لمراجعة واجبه المدرسي. فالكتاب هو الصديق الذي يؤنسه في البراري، ويرافقه كَعصاه وكَحقيبة الزاد التي تحتوي غالباً على قنينة ماء، وحبات من الطماطم، والبيض المسلوق. فقد كان يستغل كل فرصة سانحة للارتماء بين أحضانه، والسفر بين صفحاته، خاصة بعد أن يهدأ صخب القطيع تعبيراً عن إحساسه بالشبع والاكتفاء أو حينما يلتئم جمعه حول ماء عين القرية للارتواء، أو لأخذ قسط من الراحة الذي لا يتجاوز في العادة نصف الساعة كل يوم.
لم يكن يتوانى عن مساعدة الأهل في حراثة الأرض أو تشتيل بعض أنواع الخضروات، أو قطف وتنظيف المنتوجات. كان يرى نفسه طاقة من العطاء تخفت وهو يراقب عن كثب رجالاً من الأمن يأتون إليهم في كل موسم حصاد لينتزعوا من قوتهم وتعبهم وشقاهم حصتهم الإجبارية. وإذا ما تعنت أحدهم ورفض فإنهم حتماً سيخلقون لهم ألف مشكلة وعقدة وكأنهم في مجتمع إقطاعي يعود بهم إلى العصر العثماني. لا يستطيع أن يخرج من هذه الحالة إلا برسم ردة فعله بكلمات وعبارات يمررها على التراب الرطب المسقي تحت خيمة الشمس يندد من خلالها بالتصرف الأرعن لهؤلاء الساهرين على الأمن الوطن والشعب!!
رغم هذا الظرف القاسي والفقر المدقع الذي نشأ بين جناحيه، إلا أنه بقي متفوقاً في أغلب المواد المدرسية، وذلك إلى جانب اكتسابه خبرة ومهارة في تربية الماشية والزراعة. فقد كان صديقاً وفياً للطبيعة يجنح بين طياتها متأملاً لكل نبتة نبتة. وقد نسج علاقات حميمية مع كل مكوناتها، يلجأ إليها كلما ضاقت به الدنيا، ويتمرغ في أحضانها كلما انهالت عليه سيول السعادة. فيرتوي من عسل ما تجود به من كرم، هو عشق غير متناه.
بعد انتهائه من المرحلة الابتدائية، تابع دراسته الإعدادية والثانوية في القرى المجاورة حيث كان ينتقل إليها يومياً ذهاباً وإياباً دون أن يتخلف عن مزاولة أعماله الزراعية الاعتيادية ومعاونة أهله في تربية الماشية. وخلال هذه الفترة، وعن طريق الصدفة، سينخرط في أحد الأحزاب المعارضة الذي كان ينادي بالمساواة والعدل وإنصاف الفقراء والمضطهدين.
سيكبر هؤلاء الأولاد يوماً بعد آخر، ويكبر معهم الطموح والاشتغال في آن واحد. لكن بموت الوالد، سيترك إخوانه المدرسة نتيجة رسوبهم المتكرر متفرغين لمساعدة والدتهم، بينما هو ونتيجة اجتهاده وتفوقه سيستقر في مدينة مجاورة لاستكمال دراسته الجامعية.
لقد كان هذا العاشق منذ الطفولة، يتأمل وجه حبيبته يومياً في عيون الياسمين المتدلية على سور الجامعة، وبين مرآة أحرفه وأحلامه التي تزين صفحات ذاكرته وكتبه.
رأى حلمه يكبر بعد التحاقه بكلية الزراعة كمهندس زراعي، ليهندس خارطة عشقه بين مياه وسهول قريته، آملا أن يساعد هؤلاء الفقراء الذين يعملون بوسائل بدائية، كان يحلم أن يرسم صورة حبيبته بأدوات هندسية في حقل أبيه لتصبح نموذجاً يحتذى بها. كان يحلم أن يخفف حدة الفقر لدى أهله وأهل قريته بإبداعه وتفانيه. لم يكن يعلم أن عصياناً وتمرداً شعبياً سيجعله في دوامة الفوضى، ويرمي به إلى خارج البلاد قبل أن يفلح في تحقيق حلمه. لم يكن يعلم أنه سيكون بطلاً للتمرد والانتفاضة في الجامعة ضد نظام الحكم. هي الصدفة والقدر والتراكمات الكبيرة من الغبن والاضطهاد الذي وقع على كاهل الشعب.
حدث هذا عندما نظمت بعض الأحزاب السياسية المعارضة، مظاهرة سلمية أمام مركز حكومي، لإيصال رسالة واضحة إلى الجهات المعنية من أجل اطلاعها على سوء الأوضاع المعيشية، وتفشي حالات الفساد وارتفاع الضرائب في عموم البلاد، إلى جانب المطالبة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين. لكن تلك المظاهرة السلمية الصغيرة قوبلت بوابل من الرصاص الحي الذي تسبب في قتل وجرح العشرات من المتظاهرين عمداً على يد الرجال الأمن. وانتشر الخبر كالنار في الهشيم إلى كافة أنحاء البلاد، ومنها إلى المدينة الجامعية، لينطلق هو الآخر رفقة بعض زملائه إلى مظاهرات في المدينة الجامعية مسجلاً المطالب الشعبية على اللافتات والجدران، هاتفين ومطالبين بالحرية وإحقاق الحقوق، ورفع الجور عن الشعب، ومنددين بحكم عسكري ظالم، لتبدأ بعد عدة أيام حملة اعتقالات عشوائية، على إثرها سيختفي عن الأنظار، ويترك الجامعة والمدينة كلها، ليختبئ أشهراً عند أحد أقربائه في قرية بعيدة استجابة لنصيحة أحد المقربين إليه. باعتباره المطلوب الأول من بين كل الطلاب لدى الجهات الأمنية التي اتهمته بالعمالة لدول أجنبية، ومحاولته تقويض أمن البلاد.
ونظرا لازدياد حالة الاحتقان، واستمرار حدة الاعتقالات، هيأ نفسه للمجهول، وفر بجلده قاطعاً الحدود والبحار إلى أن حط رحاله في إحدى بلدان الغرب الآمنة. بعد عذاب وألم ترك خلفه الأخوين، والأم، الأغنام والمرعى، الحقل، والزرع، الياسمين المزخرفة في صباحات الجامعة.
استمرت معاناة الدمعة (العشق) كما الخبز (الفقر) إلى أن وقعت المظاهرات الشعبية العارمة ليختار فيما بعد اجتياز الحدود والبحار لتنضاف معاناة أخرى إلى رصيده، وهي معاناة الهجرة (التشرد) على أرصفة الغربة.
عاش في مركز اللجوء بين مجتمع متعدد الجنسيات والألوان، لينتقل فيما بعد إلى مجتمع جديد في التكوين، مختلف في اللغة والثقافة، في المدن والشوارع، في الجبال والأنهار، حتى قمرهم وشمسهم وطقسهم مختلف.
فقد نجح إلى حد ما في حياته الجديدة، بالرغم من كون كل شيء كان جديداً بالنسبة إليه. إلا أن عينه لا تزال تنتظر أملاً في رفع الحظر عنه، ليتمكن من العودة إلى بلاده، وعشقه، وما يزال ينتظر أن ينتهي ذاك النظام القمعي القابع على صدور الشعب.
لم ينس في الغربة معشوقته، ولم يبدلها بأمان وحضارة البلد المستضيف، فهو دائم التفكير فيها. وفي أيام وليال قضاها في أحضان هذا العشق الغريزي الذي اكتسبه من مدرسة المنزل والوعي المتزايد فيما بعد، لا يرى نفسه إلا غريباً متشرداً بين الأرصفة والشوارع، يحن إلى مسقط رأسه وصباه. فهو يعشقه منذ الطفولة، ويحلم بالعودة إليه لأنه لا يمكن أن يلحق به فهو الأرض والخضرة، النبع والماء، السهول والوديان، الهضاب والتلال، الفقر والبساطة.
إنها الدمعة والعشق
أنها القرية والوطن
ينادي ياسر بأعلى صوته وفي نجواه
بأنه راجع راجع إليك
يا عشقي
يا وطني