تتلاحق الاجتماعات والمؤتمرات بشأن القضية السورية، وكانت الطامة الكبرى في محادثات جنيف3 التي أخذت مدة طويلة من التحضيرات والتجاذبات في تسمية أعضاء وفود المعارضة وفي وضع جدول أعمال وترتيب سبل إجراء المباحثات، والتي حظيت باهتمامٍ اعلامي كبير، بينما تجاوز العديد من التحليلات والتوقعات سقف الممكنات، وسط تفاقم معاناة السوريين الذين ينتظرون بريق أمل، وهم يعيشون في محيط نار حرب شعواء.
جنيف3 لم تحقق شيئاً، لكنها شكلت تمريناً ومحطة اختبار نوايا لدى جميع الأطراف المعنية بالصراع في سوريا، فالمبعوث الأممي السيد استيفان دي مستورا بذل جهوداً مضنية للتوافق بين المعنيين، وفي رسالته قبيل المحادثات حاول أن يطمئن السوريين بأن الأمم المتحدة لن تتخلى عنهم وتمنى منهم التصالح وإنجاح العملية السياسية، وكما يبدو أن ثمة توافق روسي وأمريكي حيال الملف السوري، وإن كان بينهما اختلاف حول بعض التفاصيل، خاصةً بعد التوصل إلى إصدار القرار 2254 الخاص بسوريا عن مجلس الأمن، والذي نال اجماعاً دولياً، وكذلك التفاهم حول مجريات محاربة الارهاب العالمي وما يسمى بالدولة الاسلامية “داعش”، أما طهران المحتفظة بنفوذها الاقليمي والواقفة إلى جانب دمشق كما هو معروف، فلقد باتت تسترد أجزاء كبيرة من أرصدتها المالية من بنوك الخارج، بعد الاتفاق النووي المنجز، والآن تهتم بترتيب أوضاعها الداخلية وتجديد هيكليات نظام الحكم، ولكن مجموعة دول (تركيا، السعودية، القطر) الداعمة لتيارات الاسلام السياسي في سوريا بشكل أساسي، بذلت كل المساعي لترتيب وفد المعارضة (مؤتمر الرياض) وفق أجنداتها، وحققت هدفها في إبعاد أي تمثيل للكُـرد في سوريا أو لأطياف أخرى من المعارضة (مجلس سوريا الديمقراطية) عن الجولة لأولى، ومن جهةٍ أخرى ماطل النظام لأجل كسب الوقت وتحقيق مكاسب ميدانية بدعمٍ روسي على حساب الفصائل المسلحة التي طغى عليها الاسلام السياسي المتشدد، أما وفد المعارضة التي تكتنفها خلافات بينية عديدة وارتباطات ورهانات مُقيدة، لم يستطع تحقيق أي نجاح سياسي أو دبلوماسي أو أي مكسب إنساني ملموس في الميدان، حيث أن النظام وبعض أوساط المعارضة يستهزئان بالحل السياسي السلمي، في وقتٍ يتوجب على الأطراف السورية المشاركة في المحادثات اتخاذ قرار تاريخي مشترك بوقف إطلاق النار دون اشتراطات مسبقة لأجل وضع حدٍ لنزيف الدم والدمار، وبإطلاق مبادرات إنسانية متبادلة عاجلة، بدلاً عن خلق الحجج والمبررات في متابعة اللهاث وراء حلٍّ عسكري، وذلك بغية توفير جوٍ الجدية والتفاهم للبدء بعملية سياسية بإشراف دولي وبضمانات وقرارات أممية.
لقد شكل تعنت تركيا وآخرين في إقصاء ممثلين عن الشعب الكردي في سوريا عاملاً هاماً في تعثر المباحثات، وهنا لابد لنا من الافتكار في الوضع الكردي جيداً، فالكُـرد يعيشون في مدنٍ سورية رئيسية وفي مناطقهم التاريخية (الجزيرة، كوباني، عفرين) المتاخمة للحدود التركية والتي تفصلها مناطق تسكنها غالبية من الإخـوة العرب، ويقطن في المناطق الكردية – الجزيرة خاصة – أبناء مكونات سورية أخرى (عرب، كلدوسريان، أرمن، شيشان، …)، إضافةً إلى عشرات الآلاف من النازحين إليها، وهي تعاني أزمات عديدة كباقي المناطق السورية الأخرى، ولم تشهد توترات أو تناحر أهلي سوى تلك الهجمات الغادرة التي شُنت عليها من قبل داعش وغيرها من فصائل تكفيرية مسلحة أو ممن لهم أجندات خاصة، وهناك إدارة ذاتية قائمة بمشاركة سياسية واجتماعية متنوعة لابأس بها تعني بتسيير أمور المواطنين فيها، إضافةً الى وجود وحـدات حماية الشعب والمرأة وقوات الأسايس التي تقوم بواجب الدفاع والحماية عن المناطق الكردية، وهي تحقق انتصارات ميدانية بارزة. وبعد استمرار داعش والنصرة وتفشي الارهاب في سوريا ووقوع كارثة كوباني واستبسال المقاتلين الكُـرد فيها بوجه التكفيريين التفجيريين، تلقى الحضور الكردي السوري اهتماماً دولياً ملحوظاً، وكان الحدث الأبرز هو زيارة ممثل الرئيس باراك أوباما في التحالف الدولي لمحاربة “داعش” السيد بريت ماكغورك مع مسؤولين بريطانيين وفرنسيين إلى كوباني عبر مطار رميلان – الحسكة والتقائه مع مسؤولي الادارة الذاتية ووحـدات الحماية وقوات سوريا الديمقراطية، كما زار مقبرة شهداء كوباني وكرّمهم، وتقبل درعاً تذكارياً من ممثل وحـدات YPG، وصرّح قائلاً: “ما أنتم عليه الآن في الإدارة الذاتية هو حقكم، لأنكم قاتلتم تنظيم داعش المتطرف، وطردتموه من هذه المناطق، وسوريا المستقبل ستكون ديموقراطية، وستحترم حقوق الشعب الكردي، وسيضمن ذلك الدستور الجديد لسوريا”.. ورغم أجواء الوئام والسلم السائدة بين الكُـرد والعرب والمكونات السورية الأخرى، لكن تُسيء إليها تصريحات وأفعال غلاة الشوفينيين من أوساط عربية وتركية، وأيضاً تضرّ بها عداوات الجهاديين التكفيريين، وتشوشها مواقف لامسؤولة أو لاواقعية تصدر من بعض أوساطٍ كردية.
مقارنةً مع انجازات وحـدات حماية الشعب والمرأة وضمن إطار قوات سوريا الديمقراطية في محاربة داعش وغيرها، ومع ما يتمتع به مجتمعنا الكردي من نبذٍ للفكر السلفي التكفيري وتعلقٍ بالقيم الديمقراطية والانسانية وحقوق المرأة، فإن الوضع السياسي الكردي ليس على ما يرام، وهناك أخطاء وسلبيات تُرتكب هنا وهناك، وتنخر فيه حالات التناحر والمزاجية والانتهازية، بينما المال السياسي والرهان على الخارج يفعل فعله، كما أن لسلبيات الوضع الكردستاني تأثيرات مباشرة عليه. ما نود قوله، مهما يكن العامل الخارجي مساعداً وإيجابياً لايمكن الرهان عليه، فللكُـرد عامةً تجارب مريرة معه، لذا يتحتم علينا مواكبة الوضع السياسي الكردي وتعزيز وحـدة الصف وتقوية العامل الذاتي بكافة جوانبه، ونبذ الخلافات نحو تشكيل تمثيل سياسي كردي موحد، ليشارك في المحادثات السورية المقبلة وفي رسم مستقبل بلدنا.
كل سوريٍ جريح، يبحث عن السلم والأمان والعيش في بلده أولاً، وينتظر اتخاذ قرارات جريئة وجدية من المعنيين والسير بخطوات حثيثة نحو تحسين الوضع الانساني وإيقاف نزيف الحرب والبدء بحلٍّ سياسي قد يطول أمده.
* جريدة الوحـدة – العدد /270/ – الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي)