كل من يقرأ تاريخ الكورد ،ويبحث في الأحداث التي مرت عليهم ،والمؤامرات التي حيكت ضدّهم ،والكوارث التي حلت بهم ،بقدر من التعمق والتتبع التاريخي والتحليل الموضوعي والتقييم المنطقي والعقلاني ،لا بد أن يثير لديه كثير من الدهشة والصدمة والاستغراب ،لما لحق بهم جراء ذلك ،من ظلم واضطهاد ومآسي ،من قبل أنظمة حكمتهم عقود طويلة بيدٍ من نار ،تحرق حيثما لمست ،وبقلوب انتزعت منها الرحمة ،حتى أصبحت لا تألف إلا للشر ،ولا تستريح إلا للتعذيب والقتل ،إلى جانب غدر و خيانة بعض القوى الدولية والإقليمية ،التي ساومت على حقوقهم في بازاراتها مع تلك الأنظمة المستبدة ،وتخلت عن الكورد في أكثر من مناسبة على حساب مصالحها وأجنداتها .
يمكن أن نشير وباختصار شديد إلى البعض من المحطات المؤلمة والصعبة ،التي حرمت بموجبها الكورد من أبسط حقوقهم القومية والثقافية على أرضهم كوردستان ،التي تم تقسيمها وتوزيعها على أربع دول بموجب اتفاقية سايكس – بيكو المشؤومة ،والتي شكلت أشد النقاط سواداً في تاريخ الشعب الكوردي .
ولن نهدف من هذه الإشارة سوى التذكير والتأكيد على أن الكورد من المفترض أنهم قد استفادوا من مآسي وآلام الماضي ،كي يعلنوا موقفهم الحاسم والصريح والجريء ،الذي يمكنّهم من استغلال الظروف والمستجدات والتطورات التي تمر على المنطقة ،وألا يسمحوا بتكرار التجارب السابقة ،وأن يتجنبوا الوقوع في نفس المكائد و المصائد التي كانت ترسم لهم و تحاك ضدهم .
ــ تركيا وعبر مختلف مراحلها السياسية ،وتعاقب الحكومات من يمينية متطرفة إلى إسلامية معتدلة وعلمانية ،ورغم كل الصراعات الدامية والغير متكافئة بينها وبين حزب العمال الكردستاني ،والتي خلّفت آلاف الضحايا والمصابين ،ورغم كل الدماء التي سقطت من الطرفين ،رفضت الاعتراف بالكورد كشعب يتميز بهوية قومية مختلفة ،ولم تغير نظرتها إلى الكورد على أنهم ليسوا سوى أتراك الجبال .
ــ العرب السنة حكموا العراق حتى نهاية عهد حكم الديكتاتور صدام حسين ،ومارسوا أبشع أنواع العنف والقتل بحق الكورد ،بما فيها الإبادة الجماعية ،وعندما سقط نظام البعث الحاكم ،أبدى الشيعة تعاطفاً واضحاً وصريحاً مع الحقوق العادلة للشعب الكوردي ،ولكن ما أن قوت شوكتهم ،بعد تسلمهم السلطة ،وتحكمهم بجميع مفاصل الدولة ،حتى انكشفت نواياهم الحقيقية ،وتنصلوا من كافة الاتفاقات المبرمة بينهم وبين الكورد ،وتخلوا عن كل تلك العواطف والمشاعر الكاذبة ،وانقلبوا عليها ،وبدأوا بحرب اقتصادية على إقليم كوردستان ،ما لبثت أن تحولت إلى حرب عسكرية ،كانت أبرزها عبر قوات الحشد الشعبي الطائفية المتطرفة والتي ارتكبت جرائم بشعة بحق الكورد ،وأَسَاءت إلى رموزهم القومية والوطنية ،بما فيهم شخص الرئيس مسعود البارزاني ،الذي لم يتردد يوماً في احتضان الآلاف منهم ،من الهاربين والفارين من قمع وبطش النظام البعث الفاشي آنذاك ،لا بل قدّم لهم كل أشكال الدعم والمساندة والعون .
ــ إيران ،الدولة الإسلامية الشيعية ،والتي حاولت إدماج العديد من الإثنيات والطوائف في الدولة بهدف الدعوة إلى حكم إسلامي مذهبي واسع النطاق ،إلا أنها بقيت متمسكة بهويتها الفارسية ولم تقبل يوماً بمنح الكورد وغيرهم من القوميات الأخرى ،أدنى حقوقهم القومية والسياسية ،ولازالت حتى يومنا هذا ،تشن حملة شرسة ضدهم ،وقد قامت بقتل وإعدام الآلاف من خيرة الشباب الكورد المناضلين في سبيل نيل كرامة وحرية شعبهم وعدالة قضيته .
ــ سورية ومنذ تأسيسها ومروراً بالمراحل التاريخية المتلاحقة ،بما فيها جلاء الاحتلال الفرنسي ،شارك الكورد في بناءها والدفاع عنها بدماء أبنائها ،كما كانت لشخصيات كوردية الفضل الأكبر في استقلالها ،ولكن بقي الكورد محرومين من أبسط حقوق المواطنة ،حيث جرد الآلاف منهم من الجنسية السورية في ظل نظام بعثي عروبي عنصري شوفيني ،و كانت اللغة الكوردية هي الوحيدة الممنوعة رسمياً في سورية من بين جميع لغات العالم بما فيها العبرية ،ورغم كل ذلك ظهرت في الآونة الأخيرة قوى وشخصيات عديدة في المعارضة السورية معادية للكورد ،أصدرت تصريحات عنصرية عدائية أهانت فيها الكورد ،وأعلنت صراحةً موقفها الرافض للحقوق المشروعة للشعب الكوردي ،في الوقت الذي تدعي أنها تناضل من أجل إسقاط نظام ديكتاتوري واستبداله بنظام ديمقراطي تعددي ،يضمن حقوق الأقليات العرقية والدينية ،ولكن سرعان ما انكشفت نواياها و زيف إدعاءاتها .
وعلى ما يبدو ،أن كل تلك الممارسات الغير أخلاقية والغير إنسانية ،لم تكن كافية أمام هذه الأنظمة في معاداة الكورد وطمس هويتهم ،فرغم كل الخلافات والعداوات وتناقض المصالح فيما بينها ،إلا أنها كانت تشترك وتتشارك في العداء والعدوان على الكورد وتتسارع دوماً و دون تردد ،إلى عقد اتفاقيات سرية ضدّ حقوقهم وطموحاتهم المشروعة .
من المعلوم أن بلدان متقدمة عديدة ،تعيش شعوبها المختلفة مع بعضها البعض في أنظمة لا مركزية ،تعددية ،ديمقراطية ،فيدرالية ،لم تخلق لها أية مشاكل أو إشكالات تؤثر على وحدة أراضيها أو سيادتها الوطنية ،كما يتزعم البعض من أصحاب المواقف الشوفينية والعنصرية ،لسبب بسيط جداً ،أن هذه الشعوب وضعت مصلحة الوطن في مقدمة أولوياتها ،ومن ثم خصوصيتها القومية من لغة وثقافة وتاريخ وحتى الجغرافية .
ولكن هذا الأمر يختلف كلياً في الدول التي يعيش فيها الكورد ،فهي لا تعترف بالشعوب ولا القوميات الأخرى المتعايشة معها ،إلا من خلال الهيمنة والتسلط ومحو ثقافتها وتاريخها وهويتها ،ومن هذا المنطلق بدا واضحاً أن الكورد سئموا الوعود وملوا الخطب وغير مستعدين الانتظار أكثر من ذلك ، ولذلك بات عليهم أن يبدأوا بالتأسيس لمرحلة جديدة تجعل من التباينات والاختلاف في وجهات النظر قضية أصغر بكثير من القضية الوطنية الكوردية ،والكف عن اختلاق التوسعة والتباعد في ما بينهم ،لأنه السلوك الأمثل في تحقيق النصر لقضيته العادلة ،قضية الأرض والهوية والتاريخ ،والتي يناشد ويناضل من أجلها منذ زمن بعيد .
وأعتقد أن ما أخفق الكورد في تحقيقه في الماضي ،متاح اليوم ،وأنهم قادرين بكل تأكيد على إصلاح ما أفسدته تلك الحقبة المظلمة في تاريخهم ،من الظلم والحرمان من أبسط الحقوق القومية والإنسانية ، رغم كل تلك الهزائم القاتلة والمؤلمة ،والتي كانت انعكاس طبيعي لعدم وحدة الصف والتشرذم ، وذلك من خلال العمل بكل إخلاص وجدية من أجل تجاوز الأخطاء وعدم تكرارها ،كما يجب على حركته السياسية الاعتماد على الشعب لأنه هو صاحب الحق الكامل في اختيار الحل الأنسب والأمثل لقضيته ،وألا تعطي الحق لنفسها في مصادرة حريته وإرادته في تحديد توجهاته وأفكاره المستقبلية .