من يتعمّق في ثقافات الشرق القديم على امتدادها الزمني الطويل, سيكتشف أن معظم تراث هذه المنطقة يتمحور حول فكرة «الخلاص» من “الظالم ” و ثمة نماذج مكررة للتعبير عن هذه الفكرة في كل مرحلة زمنية , لعل الأنبياء و الأديان التي اقتصرت على الشرق تأتي أيضاً  في ذات الإطار . في الشرق المعاصر , تيمناً بالغابر, تُنَصِّب الشعوب على نفسها طواعية ملوكاً و أمراء , قادة ديكتاتوريين …تمنحهم في كل مرة لقب البطل المنقذ .. المخلِّص حتى دون أن  يُسجل لهذا البطل نصرٌ في  أية معركة أو على حلبة مواجهة مع خصم و لو ضعيف , و دون أن تتوفر فيه –  عادة –  بقية صفات و شروط القيادة  و لو في حدودها الدنيا كالإلمام  بالشأن العام  و الإدارة و البرامج و الخطط ,حيث يفي بالغرض  قليلٌ من الذكاء و بعض الشعارات الكبيرة و حفنة من مريدين ينسبون إلى القائد  بلاغة القول و شجاعة الموقف , يحسبون له مساهمات كل الدائرة المحيطة و المستشارين و كل تضحيات التحت المُقاد.

 لأن الكرد عموماً هم جزء من هذا الشرق, و معاناتهم مع الظلم و الإنكار ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا , تراهم في الميثولوجيا كما في السياسة أكثر استهلاكاً لنماذج” الخلاص” الشرقية , يبحثون في كل زمن عن بطل ضمن سياق الرغبة في وجود قائد مخلّص,  يعقدون عليه كل الآمال دفعة واحدة , يمجّدونه إلى درجة القداسة, ثم تتبخر آمالهم مع زوال عصر البطل لتبدأ قصة جديدة ..

ممالكهم إماراتهم و حتى انتفاضاتهم القومية يسمونها بأسماء قادتها , أحزابهم  السياسية باتت تعرف بأسماء أمنائها العامين …في إلغاء ظالم لأي دور آخر مشارك مع البطل أو معاصر له .

الكرد السوريون هم روّاد هذه الحالة الشرقية في البحث عن أبطال لكن ثمة ما يتفوقون فيه حتى على بقية الشرقيين و على أقرانهم في أجزاء كردستان الأخرى و هو أنهم لا يثقون بقدراتهم الذاتية و لا بقيادات من بين ظهرانيهم, بل  يبحثون دائماً عن أبطالهم في الجوار , يتخذونهم أولياء أمرهم , يشكونهم و يبكونهم حتى في أمور صغيرة , في سلوك ينم عن عدم البلوغ أو شيء من هذا القبيل, تراهم يدافعون حتى اليوم عن البارزانية أكثر من كرد العراق و الحزب الديمقراطي الكردستاني  نفسه و يدافعون عن الأوجلانية أكثر من كرد تركيا و حزب العمال الكردستاني نفسه  كما  دافع بعضهم من قبل و لا زال عن الإسلام و نبيه أكثر من أصحاب الدين و عن الشيوعيّة ومؤسسها ربما أكثر من الروس … في الوقت الذي شكّكوا باستمرار و طعنوا فيه بقامات شامخة أفرزتها تجربتهم الذاتية الطويلة نسبياً في النضال السياسي و لم يقدّروا حتى فنانيهم و مثقفيهم  إلا بعد أن اشتهر هؤلاء في بيئات أخرى أو رحلوا إلى مثواهم الأخير ….

كرد سوريا–باختصار- لا يحبون بني جلدتهم الأقربون !.

تكاثرت أحزابهم و حتى تجمعات مستقليهم و مثقفيهم عنقودياً ليسجلوا بها رقماً قياسياً , تتسابق غالبيتها نحو ولاءات لهذا البطل أو ذاك , البطل في عقليتهم واحد أحد و كل من ينافسه هو في نظرهم خائن على طريقة عشاق أفلام البوليوود ( بطل و عصابة) , لم يطوروا برامجهم السياسية , و لم  يدافعوا عن أنفسهم و عن خصوصية قضيتهم داخل الجغرافيا السورية و لم يهتموا بمدنهم و قراهم بقدر ما تعلقوا بأجزاء كردستان الأخرى و مدنها و جبالها و كأنها هي الوطن النهائي لهم..  ولاءهم المتواصل لأقطاب القوة الكردستانية ضمن سياق الرغبة في وجود مخلّص , جعل  قرارهم و مصيرهم اليوم في ذمة قيادات كردستانية رغم الكم الكبير من القيادات و الكفاءات المحلية   .

فهل لواقع كونهم أقلية عددية بالنسبة لأجزاء كردستان الأخرى كما ضمن الوطن السوري و الانقطاع الجغرافي بين مناطقهم ( الجزيرة , كوباني , عفرين ) علاقة بهذه الظاهرة  ؟. أم  أن لها صلة بالنشأة الحزبية حيث تأسس أول تنظيم سياسي لهم قبل ستة عقود متأثراً بانتفاضات و معاناة كرد تركيا و لاحقاً بثورة كرد العراق بغياب واضح للخصوصية السورية و استقلال القرار إلى درجة أن قيادة الثورة الكردية في العراق هي من عينت للحزب الكردي السوري في بداية السبعينيات طاقم القيادة و السكرتير نفسه ؟

خارج الشعارات و المزايدات و إيهام البسطاء بكردستان كبرى مثاليّة تنتظر خلف الباب و وراء الحدود , يبقى الكرد السوريون حسب قراءات الواقع جزءً من الوطن السوري الرسمي لعقود عدة قادمة على الأقل,  و هذا ما يحتم عليهم كأولوية على سلم اللحظة التاريخية الحالية,  بذل كل الجهود من أجل  تثبيت حقوقهم في دستور سوريا الجديد و بلورة خصوصيتهم القومية في قوام بنائها القادم …القريب.

الكردي السوري حتى و إن تفاءل بتحقيق تقدم دبلوماسي و اختراقٍ للثقافة البعثو- إخوانية  العنصرية الشائعة في محيطه , حتى و إن بدا منتصراً اليوم إلى جانب التحالف الدولي في المعارك ضد الإرهاب و داعش , لن يصبح صاحب قضية ولن يكسب مؤيدين حقيقيين لها ما لم تكن لديه شخصيته الخاصة و قراره المستقل و رؤيته الواضحة ,  و لن يكون قراره مستقلاً إن لم يتعافى من (عقدة الأخ الصغير) و يتحرر من عهدة أخوته الكبار في الجوار الجغرافي (مع كامل احترامنا لهم و حاجتنا لمساندتهم كأشقاء ).

 لن يستطيع الكرد السوريون تقرير مصيرهم و إدارة أنفسهم و التعايش مع شركائهم بسلام إن لم يتحرروا من عُقَد النقص و الاتكال ( بيتر بان) و( ساندريلا) * …إن لم يتخلصوا من ذلك التابع الذي يسكن في دواخلهم ..إن لم تخرج علاقاتهم  مع أجزاء كردستان الأخرى و مع أحزابها الرئيسية من إطار التبعية الحالية إلى التعامل بالمثل و الاحترام المتبادل و المصلحة المشتركة وفق اتفاقيات موقعة… موثقة.

* هوامش :

عقدة الأخ الصغير : هو تشكيك الصغير بقدراته الذاتية في بلوغ سوية الأخ الأكبر.

  عقدة ساندريلا : هو أن ينتظر أحدهم شخصاً آخر  ليقرر عنه و يغير واقعه نحو الأفضل.

– عقدة بيتر بان : أن يظل الشخص كطفلٍ , لا يرغب بالنضوج لكي لا يتحمل المسؤولية ..

yekiti