المكاسب التي حققّتها المرأة التونسيّة ،ليست مكاسبا مسقطة على واقعها الاجتماعي بل ثمرة لنضالات
و عذابات نسويّة من أمد بعيد و في شتّى المجالات: التشريعيّة بداية ، الاجتماعيّة و الابداعية و غيرها ، و خاصة في هذا المجال الاخير الذي كانت المرأة فيه موصومة بشتّى النعوت جرّاء ثقافة ذكوريّة منغلقة و متسلّطة رافضة لأي ابداع نسويّ ، انخراط المرأة التونسيّة في معارك تحرّرها كان وما يزال انخراطا واعيا لهذه كانت محامله متنوّعة لا بل فنيّة في غالبها ، عميقة في طرحها ، منطلقة من واقعها المحكوم بالتناقض الصارخ توّاقة الى فضاءات أكثر اتّسعا فيها الحريّة المشتهاة و المساواة التي تحققت تشريعيا و تحتاج نضالات أكبر لتصير واقعا معاشا ،
في نفس هذا السّياق تخوض مبدعة كوريغرافية تونسيّة معاركها – الفنيّة- بوعي شديد و بعمق أشدّ
و بثبات أكبر تتدرّج فيه على سلّم النجاحات لتدرك شمسها / حقيقتها :
ثريا بوغانمي استاذة رقص معاصر بالمعهد العالي للموسيقي و المسرح بالكاف، متحصلة على الماجستير في العلوم الثقافيّة من المعهد العالي للمسرح بتونس ،ارتباط حسّها و حضورها الفنيّ بالتحصيل العلميّ و الاكاديميّ جعل عروضها تتّسم –كما ذكرنا سابقا – بعمق الطرح المتعلّق بأهداف فنيّة / جماليّة و اخرى أهداف و رسائل مضمونيّة /فكريّة لها أبعادها التحرّرية و التنويريّة في زمن التوحّش و الارتداد الى حجريّة العصور البليدة ، هذه الرؤية المتكاملة للفن ّ كان لها ان تثمر
نجاحات و مشاركات وطنية و عربيّة متعدّدة ينتشر معها عطر الفعل الفنيّ و يجوس بالارجاء ويعمّ نور
المرأة/ الفكرة السّاطعة التي تحمل همّها المبدعة و تسعى بها نحو الثّريا ،
عرض “توحشّت” من واقع المرأة التونسية الى كونيّة الهمّ الانسانيّ:
كلّما التصق المبدع بأديم أرضه / واقعه ، بهمومه نجح في معانقة الكونيّة فالعمل الفنيّ على حد تعبير علي أحمد سعيد ( أدونيس) هو” تفكيك البنى السببيّة للواقع المحكوم بالتناقض الصارخ و اعادة تشكيلها جماليّا ،”
الهم ّ الانسانيّ واحد و لكن أغلب المبدعين الذين عانقوا الكونية و لامسوا همومها و تطلّعاتها انطلقوا من همّهم الواقعي الفرديّ او الجمعيّ و هذا ما نجحت فيه ثريا بو غانمي لاني ككاتب ينتابني الفخر أن مبدعة كوريغرافية استوحت عرضها الموسوم بعنوان ” توحشّت” – و لنا عودة للعنوان- من رواية لكاتبة تونسيّة أيضا وهي “فتحيّة الهاشمي” من خلال روايتها ” مريم تسقط من يد الله” ، هذه الأخيرة شبيهة جدّا بالاولى – ثريا بو غانمي – في وعيها بمعركة تحرير المرأة التونسيّة ، اذا العرض الكوريغرافي “توحشّت ” عرض تونسيّ خالص في منطلقاته و في أدائه و في همومه أيضا ،بالنسبة للعنوان قد يتوهم المتتبع البسيط ان العنوان بالعامية التونسية منطلقه ” الشوق” باعتبار اننا نعبّر عنه بــ “توحشتّك” و الواقع أن ثريّا بوغانمي تقصد معنى اعمق فالعنوان فصيح تقصد به التوحّش هذه الدلالة المخاتلة نجحت في خرق انتظارات المتقبّل و هذا نجاح أوّل للعمل الفنّي ،هذا التوحّش الذي تروم من خلاله ثريا بوغانمي نقد البعد الغريزي الحيواني الذي يلصق بالمرأة من طرف الثقافة الذكورية المتوحشة و المهيمنة ، العنوان صرخة في وادٍ تدعو من خلالها ثريا المراة الى اكتساب القوّة- المعنويةو الفكرية- لمجابهة هذا التوحشّ الذكوري ، النجاح في العنونة لا يعني البتّة الانتصار للخواء لان العرض أيضا حقّق نجاحه من خلال فعاليات تظاهرة “تونس عاصمة الرقص” الملتئم في دورته السادسة عشر في ماي الفارط و الذي نالت فيه ثريا بوغانمي ، جائزة لجنة التحكيم تنويها بالعرض المتكامل،
عن “توحشت” و في تصريح لجريدة المغرب التونسيّة تتحدث ثريا بوغانمي عن العرض فتقول :” عمل توحشت هو في الحقيقة صورة لامرأة لاحقني انينها و عذابها منذ تقريبا خمس سنوات و انا طالبة بالمعهد العالي للفن المسرحي عندما اطلعت على رواية مريم ؛؛تسقط من يد الله ؛ للكاتبة التونسية فتحية الهاشمي التي اتقنت عن طريق الكتابة التوغل في عوالم هذه المرأة “
هذه المرأة الساعية للانعتاق التي تسكن عرض “توحشت” وتستقر بقلب و جسد” ثريا “ اختارت نفس الجسد المسلّط عليه سياط الازدراء من ثقافة و حضارة امعنت في السادية و المازوشية في آن ، لهذا الجسد لغته القادرة على خوض المعارك و الانتصار فيها للفكرة برغم الصمت و رغم الديكور البسيط مجرّد كرسي أحمر فاقع بلون الدم المسفوك في زمن التوحّش ،و رغما عن هذا و ذاك يحلّق الجسد الراقص بعيدا الى تخوم سدرة المعنى فيؤدي رسالته و يبلّغ الدلالة و المعاني ،
بعد النجاح في تجسيد هموم المرأة التونسية من خلال هذا العرض كان له و لصاحبته ان يلامسا الكونيّة و تطّلعاتها من خلال عرض مرتقب في مسرح الحمراء بجينيف المقرّر انجازه بتاريخ 09 ديسمبر /كانون الاول القادم ، هذا العرض المرتقب نجاح آخر للمرأة التونسيّة أولا و لعرض ” توحشّت” .