رسالة الانتفاضة كانت: لا تخلق مجتمعات متجانسة بأليات القهر والصهر والقتل والتدمير كما لا يمكن القفز على المشاكل بخلق فتن وافتعال صراعات وهمية كما لا يمكن أن تعزل مجتمعاً عن العالم الخارجي بقرار سياسي أو إجراء أمني.
الدولة حين تغيّب بوصفها حاضنة وكيان لكل المواطنين وبوصفها مؤسسات يديرها رجالٌ ينتخبون بأغلبية ويرحلون حين تغدو أصوات ناخبيهم أقلية, الدولة حين تصبح مرادفاً للسلطة والنظام والحزب الحاكم, والقوانين حين تعطل بقانون الطوارئ والأحكام العرفية, والحياة العامة حينها تتصحر والمواطنون يغدون رعية والقائد راعٍ أوحد, لذلك حين ثارت الجماهير فهي ثارت ضد هذا كله وهذا ما قد حصل في الثاني عشر من آذار 2004 والتي تحل ذكراها السنوية اليوم والتي خلّفت أكثر من أربعين ضحية إثر اندلاع اشتباك بين مناصري فريق الفتوة من دير الزور وفريق الجهاد من القامشلي في لقاء كروي في ملعب القامشلي البلدي حيث تجول مناصري فريق الفتوة قبل المباراة في شوارع القامشلي حاملين صور الرئيس العراقي السابق ومرددين شعارات ( جايين نحيي اثنين الفتوة وصدام حسين) تحت أبصار الأجهزة الأمنية السورية التي لم تكن تغيب عن أعينها توزيع منشور صغير, تحول عراك الأيدي في الملعب البلدي إلى شجار ثم إطلاق نار من قبل الشرطة والأجهزة الأمنية سقط من جراء ذلك العشرات من المدنيين بين قتيل وجريح.
يوم الثالث عشر من آذار 2004 تحول التشييع إلى مظاهرات عارمة شملت المناطق الكردية ومناطق تواجد الكرد, تحدوا جبروت الأسد, هذا كان العنوان الأبرز لانتفاضة 2004, لم تقف الاحتجاجات عند الحريات العامة وحق الجنسية للمجردين منها والإفراج عن المعتقلين, تجاوز المنتفضون الأمر إلى المطالبة بإسقاط رأس النظام عبر تحطيم تماثيل الأسد الأب وتمزيق صوره وصور نجله الرئيس, في مقابل ذلك لم تشهد هذه المناطق حادثة واحدة للاعتداء على الافراد أو الممتلكات الشخصية بسبب الانتماء القومي أو الديني أو حتى موالاة النظام, من أبعد نقطة في عين ديوار إلى قلب العاصمة دمشق وخاصة في الحي ذات الغالبية الكردية(زور آفا) كما في حلب, حييّ الأشرفية والشيخ مقصود ,كما أنه لم يحدث أن شهد اعتداء مسلح واحد أو أية محاولة لحمل السلاح بل أن التفسير الأكثر منطقية والذي كان يلاقي رواجاً في الوسط السياسي آنذاك أن الجهاز الأمني بحاجة لتجديد شبابه وأن قانون الطوارئ والأحكام العرفية التي تحكم بموجبها الأجهزة الأمنية بحاجة إلى اقتتال أهلي يبرر عودة القبضة الأمنية التي تراخت بفعل غياب الأسد الآب وطاقمه الأمني خاصة أن النشاط السياسي السلمي المعارض كان قد بدأ يتمدد عقب سلسلة تجمعات احتجاجية بدأت في 10 كانون الأول 2002 بمناسبة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بحزب كردي صغير (يكيتي) ثم توسعت لتشمل أربعة أحزاب كردية في 25 حزيران 2003 ثم شملت في ذكرى الإحصاء الذي أجري في 5 تشرين الأول 1962 والتي حرم بموجبها أكثر من مئة ألف كردي من حق المواطنة لأسباب سياسية, معظم المعارضة السورية وخاصة إعلان دمشق الإطار الأكثر فعالية حينذاك حيث تجمع ما يقارب ألفي ناشط وسياسي أمام مبنى الوزراء يوم 5 تشرين الأول 2003 مطالبين بعودة الجنسية للمحرومين منها ومطالبين بالحريات العامة والإفراج عن المعتقلين السياسيين, كانت تلك مقدمات لاحتجاجات 2004 .
بدأت الأجهزة الأمنية بالعودة إلى الواجهة وخاصة رموزها التي كانت قد أزيحت عن المشهد قليلاً كاللواء محمد منصورة حيث بدأت بموجة اعتقالات واسعة, اعتقالات على الهوية في معظم المناطق التي شملتها موجة الاحتجاجات حتى أنها في دمشق شملت كل القاطنين في الحي الكردي (زورآفا) الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و60 عاماً.
لم تخرج رقعة الاحتجاجات من الدائرة الكردية كما لم يشهد تعاطفاً كبيراً في الساحة السورية العامة خارج دائرة النخب السياسية الليبرالية التي كانت تفتقر إلى القاعدة الشعبية, كما أن الحركة السياسية المعارضة ذات النزوع القومي العربي ربطت التحرك الكردي بسقوط نظام صدام والتعاطف الكردي مع الوجود الأمريكي في المنطقة والآمال المعقودة عليها, فانحسرت دائرة الفعل المشترك والجماعي وتشددت القبضة الأمنية و وأدت بوادر الانتفاضة الشعبية ضد حكم البعث.