بعد مضي خمسة سنوات قاسية ومكلفة بشريآ واقتصاديا على الأزمة السورية، أدرك جميع الأطراف السورية والدولية، بأن طريق العنف بات مسدودآ ومكلف للغاية، واقتنعوا بأنه ليس بمقدور أحد الانتصار في المعركة وهزيمة الأخر، وتحمل الأعباء الاقتصادية للحرب لفترة طويلة، ولهذا أخذت الأطراف المتورطة الخارجية تحديدآ في هذا النزاع، البحث عن مخرج للخروج من هذه الحرب المستعرة منذ عدة سنوات.
إن تكلفة الحرب السورية، حسب دراسة أجراها مركز فرونتيير إيكونوميكس الأسترالي للاستشارات، ومؤسسة ورلد فيجن الخيرية أن الخسائر الاقتصادية للحرب في سوريا تقدر بنحو (689) مليار دولار إذا توقف القتال الأن، وأنها قد تصل إلى 1.3 تريليون دولار إذا استمرت الحرب حتى عام 2020.
ومؤتمر إستانا الذي عقد قبل يومين بين الفصائل المسلحة والنظام السوري، برعاية كل من روسيا، وتركيا وايران، جاء في هذا الإطار، أي إطار البحث عن مخرج من الأزمة السورية، التي أخذت تستهلك الكثير من الموارد المالية، من خزينة هذه الدول الثلاثة، هذا عدا عن الجوانب السياسية والأمنية والاجتماعية لهذه الأزمة، وتأثيرها على استقرار وأمن هذه البلدان وبشكل خاص تركيا.
قبل الدخول في تفاصيل الموضوع، دعونا نلقي نظرة سريعة على تكاليف هذه الحرب بشكل عام، وكم يحتاج هذا البلد المنكوب من مبالغ مالية لإعادة بنائه من جديد. فحسب أكثرية التقديرات، إن تكلفة هذه الحرب المستعرة، قد وصلت إلى أكثر من 1.3 ترليون دولار، حتى الأن. وإن فاتورة إعادة بناء سوريا تحتاج في المستقبل إلى 300 مليار دولار، كي يستعيد هذا البلد عافيته. وخاصة إن البلد منهك اجتماعيا، ومدمر اقتصاديا، والكثير من كوادره البشرية المتعلمة، قد غادرت البلد إلى أوروبا ودول الخليج وأمريكا.
ففي مقالتي هذه سوف أتطرق فقط الى الأعباء المالية، التي تكبدها ويتكبدها الأطراف الخارجية المتورطة في النزاع السوري بشكل مباشر، وتحديدآ روسيا الإتحادية وإيران وتركيا، الأكثر تورطآ وتأثيرآ في هذا النزاع، ولنبدأ أولآ بروسيا حامي النظام الرئيسي.
حيث كشفت دراسات عديدة أعدتها معاهد غربية معروفة ورصينة “كمعهد واشنطن للدراسات الاستراتيجية” بأن تكاليف التدخل الروسي العسكري في سوريا يصل في اليوم الواحد، إلى حوالي 10 ملايين دولار تقريبآ. وتتوزع التكلفة المادية على عدة قطاعات، أبرزها سلاح الجو، الذخيرة وقطع التبديل، العسكريين، الوحدات البحرية، ومصاريف الاستخبارات العسكرية، وبناء وتوسيع القواعد الجوية التي تحتاجها القوات الجوية. هذا إضافة، إلى الدعم الاقتصادي الروسي المباشر لاقتصاد النظام السوري المنهك، كي يتمكن من البقاء على قيد الحياة.
وبعملية حسابية بسيطة يمكن حساب الكلفة الإجمالية للحرب الروسية في سوريا، حيث تقدر بعض المصادر بنحو حوالي 4 مليارات في العام الواحد، وهذه تكلفة عالية بالنسبة لاقتصاد روسيا، الذي يعاني كثيرآ بسبب العقوبات الغربية القاسية المفروضة عليه، بعد ضم روسيا جزيرة القرم إلى أراضيها، وثانيآ، بسبب هبوط أسعار النفط إلى مستويات دنيا منذ نحو أكثر من عام.
وثالثآ، بسبب ضعف ميزانية وزارة الدفاع الروسية، والتي بلغت في العام 2016 حوالي خمسين (50) مليار دولار.
إلى جانب ذلك هناك تكاليف إضافية، غير تلك التي ذكرناها آنفآ، حيث أشركت روسيا في المعركة، قاذفات بعيدة المدى لضرب أهداف معينة في سوريا، وطائرات “توبوليف تي يو- ٢٢ أم”، و”توبوليف تي يو- ٩٥ بير” و”توبوليف تي يو-١٦٠ بلاكجاك”، اللتين تستخدم كل منهما مزيجاً من الذخائر الموجهة وغير الموجهة، إلى جانب صواريخ كروز. كما أنها أطلقت صواريخ كروز من نوع “26 كاليبر” من بحر قزوين، لضرب أهداف محددة داخل سوريا. كل ذلك شكل عبئآ إضافيآ، على ميزانية الدفاع الروسية
إن التدخل الروسي في النزاع السوري المسلح، أتى لإنقاذ النظام من السقوط، وحماية لمصالحها في هذا البلد الذي استثمرت فيه كثيرآ عبر السنوات الماضية. وتمكن الروس من تحقيق هذين الهدفين بدرجة كبيرة، وفي النهاية هي لا ترغب، في إدامة هذا النزاع
الدامي والمكلف اقتصاديا لها. ومن هنا يأتي بحثها عن مخرج لهذه النزاع، مخرج قد لا يرضى عنه النظام السوري والإيراني. لأن مصالح هذه الأطراف الثلاثة، لا تتلاقى دومآ وفي كل شيئ. ولا ننسى بأن التدخل الروسي إلى جانب النظام، جعلت منها عدوآ لعموم السوريين، وهذه أيضآ خسارة، ولها عواقبها في المستقبل على مصالحهم في هذا البلد.
أما كلفة التدخل الإيراني في الحرب السورية، فلها شقين:
الشق الأول بشري:
على صعيد الخسائر البشرية الإيرانية في سوريا، منذ تدخلها في هذا النزاع بهدف إنقاذ حليفها بشار الأسد، إجتازا خسائرها 4000 قتيل، بين متطوعين طائفيين، وجنود من الحرس الثوري، وضباط كبار بصفة خبراء عسكريين.
ومن بين أبرز الجنرالات الإيرانيين الذين قتلوا في سوريا الجنرال حسن الشاطري الذي قتل في شباط 2012 بريف دمشق، والجنرال عبد الله اسكندر الذي قتل في أيار 2014
بريف دمشق أيضًا، والجنرال جبار دريساوي الذي قتل في تشرين الأول 2014 في ريف حلب، ومحمد علي دادي الذي قتل في كانون2 2015 في ريف القنيطرة، وعباس عبد إلهي الذي قتل في شباط 2015 في ريف درعا، ومحمد كرم أردكاني الذي قتل في أذار 2015 في ريف درعا، وكريم غوابش الذي قتل في تموز 2015 في ريف دمشق، وحسين همداني الذي قتل في تشرين الأول 2015 في ريف حماة، وفرشاد حسوني زاده الذي قتل في تشرين الأول 2015 في ريف دمشق، ومسلم خيزاب الذي قتل في تشرين الأول 2015 في ريف حماة، والجنرال مرتضى عطائي، القائد الأعلى للواء فاطميون الأفغاني.
ويضاف إلى القتلة الإيرانيين، قتلى حزب الله اللبناني، الذين يؤتمرون بأوامر وليه الفقيه علي خامنئي المرشد الأعلى لإيران والحاكم باسم الله. وقد بلغ عدد قتلة هذا الحزب، عدة ألاف من المقاتلين، بسبب تورطه الكبير في الحرب السورية، ويقدر عدد مقاتليه الذين شاركوا في المعارك بأكثر من 10 ألاف مقاتل. ومن أبرز قادة هذ الحزب، الذين سقطوا في المعارك بسوريا هم:
مصطفى بدر الدين: يعد رجل الظل في حزب الله، ومستودعاً للكثير من أسراره، شارك بعمليات في الكويت عام 1982، وتولى مسؤولية الوحدات الأمنية بالحزب، ليصبح فيما بعد أعلى قائد عسكري فيه، وكان يقود كتائب الحزب في سوريا. تم اغتياله في شهر أيار 2016، وكان على لائحة المتهمين بالتورط في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري عام 2005.
علي فياض: قائد ميداني ومسؤول عن العمليات الخاصة في الحزب، وأعلن حزب الله نهاية شباط 2016 استرجاع جثة “الحاج علاء”، مع قتلى آخرين، من تلة الحمام في ريف حلب الجنوبي الشرقي، حيث قضى بمعارك مع تنظيم داعش.
سمير القنطار: كان أسيراً لدى إسرائيل مدة ثلاثين عاماً، وتم الإفراج عنه ضمن صفقة تبادل الأسرى بين حزب الله وإسرائيل عام 2008، ثم انضم إلى صفوف قوات الحزب بسوريا، قبل أن يُعلن عن مقتله أواخر 2015، وتضاربت الأنباء بشأن مصرعه، حيث أعلن النظام السوري في البداية أنه قتل في هجوم إرهابي، ثم قال إن غارة إسرائيلية استهدفته ببلدة جرمانا قرب دمشق.
حسن حسين الحاج: من القادة المخضرمين، وكان مشرفاً على مليشيات الحزب التي تقاتل في ريفي حماة وإدلب، بينما يرى مراقبون أنه كان القائد الفعلي لكل قوات حزب الله في سوريا، قتل بمحافظة إدلب في تشرين الأول 2015، إثر استهدافه بصاروخ من قبل المعارضة، كما قتل خليفته مهدي حسن عبيد بعد أيام من مصرعه.
الشق الثاني مادي:
إن فاتورة الحرب الإيرانية في سوريا، أعلى بكثير من تكاليف الحرب الروسية، لأنها تصرف على نظام بشار الأسد، وحزب الله، المليشيات التابعة لها في العراق وأفغانستان وتتصرف كقوى عظمة.
فنظام الأسد لوحده يكلف الخزينة الإيرانية شهريآ حوال 500 مليون دولار. هذا ما عدا حزب الله اللبناني والمليشيات العراقية والأفغانية المقاتلة في سوريا. ولا ننسى تورطها في اليمن ودعمها لجماعة الحوثي. ومن هنا يمكن القول بأن الحرب في سوريا تكلفها في العام الواحد، بحوالي عشرة مليارات دولار، وهذا يضمن المساعدات الاقتصادية المباشرة لاقتصاد النظام السوري المنهار.
النظام الإيراني لا يدفع كل هذه التكاليف من جيبها لوحدها، وإنما تحصل على جزء من هذه الأموال، من خزينة الدولة العراقية، عبر رجالها في الحكم.
إيران تتصرف كقوة إقليمية، وتعتبر هذه الدول (العراق، سوريا، لبنان، البحرين، اليمن) دائرة نفوذها، ولهذا تعتقد إن الصرف عليها ضروري، مهما كلفها ذلك من أموال، للحفاظ على مصالحها في هذه البلدان، على المدى البعيد من وجهة نظرها.
أما بخصوص تكلفة الحرب التركية في سورية، فللحرب التركية في سوريا خصوصية معينة، تختلف عن الحرب الروسية الإيرانية حلفاء النظام السوري.
بحكم تركيا دولة مجاورة لسوريا وتمتلط حدود مشتركة بطول 950 كيلو مترآ معها، فإن أي تطورات على الساحة السورية، من شأنها أن تؤثر على الداخل التركي بشكل مباشر، إن كان اقتصاديا وأمنيآ، وخاصة في ظل التنوع العرقي والطائفي المتشابه في كلا البلدين. والقلق التركي الأكبر خلال الأزمة السورية كان ولا يزال، هو انتقال رياح التغير السورية إلى الداخل التركي، حيث الأغلبية الكردية مستوطنة في جنوب شرقي تركيا، ويخوض حزب العمال الكردستاني “ب ك ك” حربه ضد الدولة التركية منذ أكثر من ثلاثين عامآ. ويمكن تقسيم خسائر تركيا، جراء الأزمة السورية إلى قسمين:
القسم الأول:
يتعلق بتحمل خزينة الدولة، أعباء اللاجئين السوريين، الذين تجاوزا عددهم المليونين لاجئ، معظمهم من الفقراء. وحسب التقارير التركية الرسمية فإن اللاجئين السوريين يكلفون الخزينة العامة، مليار ونصف دولار سنويآ (1.5)، وهو مبلغ متواضع بالنسبة للاقتصاد التركي، والذي وصل ناتجه المحلي إلى حوالي 750 مليار دولار في العام 2015.
القسم الثاني:
إن خسائر تركيا نتيجة تأثر أواضعها الداخلية بما يجري في سوريا، واندلاع الحرب مجددآ بين الأتراك والكرد، وسياسة الإقصاء التي اتبعها طيب اردوغان مع خصومه السياسيين، وتفجر الأوضاع الأمنية في البلاد، والعمليات الإرهابية ضد أهداف تركية، وتوتر علاقتها مع أمريكا وأوروبا، إثر الخلاف حولا الأزمة السورية وكيفية حلها. ومن ثم عملية إسقاط القاذفة الروسية من قبل السلاح الجوي التركي، زادت من مصاعب الاقتصاد التركي، وتوج كل هذا بالانقلاب العسكري الفاشل، وهذا كله تسبب في خسائر فادحة للاقتصاد التركي الصاعد، والذي كان يحتل المرتبة التاسعة عشر بين اقتصاديات العالم.
ويمكن القول بأن خسائر تركيا الاقتصادية، جاءت نتيجة ضرب قطاع التجارة مع دول الخليج والأردن ومصر ولبنان وسوريا نفسها. وثانيآ، ضرب القطاع السياحي الذي كان يدر عشرات المليارات من الدولارات سنويآ لخزينة الدولة. والقطاع الثالث الذي تأثر سلبآ، كان قطاع الإستثمار، الذي فقد الكثير من المستثمرين، بسبب الوضع التركي الأمني المتفجر، ورابعآ، فقدان الليرة التركية الكثير من قيمتها خلال فترة قياسية قصيرة، وفقدان المستثمرين الثقة بها.
وحسب الكثير من التقديرات، إن خسائر تركيا من جراء كل ما حدث في العام الماضي والأعوام التي سبقته تجاوز المئة (100) مليار دولار، وهو مبلغ مهول بكل المقاييس بالنسبة لاقتصاد فتي مثل الاقتصاد التركي.
ومن هنا كان سعي هذه الدول الثلاثة الحثيث، لإيجاد حل للأزمة السورية المكلفة لاقتصادهم وأمنهم، ولكن هذه الدول تريد تأسيس نظام سياسي في سوريا ما بعد الأسد يتواءم مع مواقفها ومصالحها، وبرأي هذا صعب جدآ بسبب تضارب المصالح بين هذه الدول الثلاث، وبسبب وجود قوى إقليمية ودولية، ليست ببعيدة عما يجري في سوريا كأمريكا والسعودية.
ومن ما تقدم، يتضح بأن الجميع يرغب في الخروج من هذه الحرب المكلفة، ولكن السؤال الأساسي كيف الخروج منها.
إن الخروج الآمن والحقيقي، يكمن في إنصاف الشعب السوري بكرده وسنته، وإقصاء نظام الأسد الإجرامي، وإقامة نظام مدني فدرالي، يحافظ على حقوق كافة القوميات والطوائف، ولكن هذا الحل غير متوفر أقله في الفترة.
نعم روسيا تريد سحب قواتها من سوريا في أقرب الأوقات، ولكنها لا تريد قبل ترتيب الوضع السوري الداخلي بحيث يقام نظام يتواءم مع مصالحها الاستراتيجية، ولا يمكن أن تقبل خسارة هذا البلد، بعد كل ما استثمرته فيه أثناء هذا الصراع الطويل وقبل ذلك بسنوات.
وبالنسبة لتركيا هي بدورها تسعى لإنهاء النزاع السوري بأسرع الآجال، ولكن ليس بأي ثمن، وإنها تصر على عدم منح الكرد أية حقوق قومية، فما بالكم بحكم ذاتي أو إقليم فدرالي يشمل كل الشريط الحدوي.
وإيران، هي الإخرى تريد إنهاء الصراع السوري بأسرع وقت، نظرآ لضخامة الكلفة المالية الباهظة لهذا الصراع عليها، ولكنها تريد استمرار النظام الطائفي العلوي في الحكم، حتى ولو بوجوه اخرى غير بشار الأسد والذين من حوله.
ولكنها لن ترضى أبدآ بضياع سوريا من يدها، لأنها تدرك إن ضياع سوريا، يعني نهاية حلمها الإقليمي، والذي يتلخص بإنشاء هلال شيعي يمتد من طهران وينتهي في بيروت، مرورآ بكل من دمشق وبغداد، وهذا بنظري مستحيل تحقيقه لأسباب وعوامل عديدة، لا مجال لبحثها الأن.
وختامآ، لا بد من التأكيد مرة أخرى، بأن لا مستقبل لأي حل يتم فرضه على السوريين من الخارج بالقوة، دون الأخذ بالاعتبار مصالح السوريين وطموحاتهم، أي تحقيق حلم الحرية والعيش بكرامة. وهذا يعني حكمآ، إنهاء حكم الطاغية بشار وعصابته المجرمة، ومحاسبة المسؤولين عن إراقة دماء مئات الألاف من الأبرياء، وتهجير الملايين من ديارهم. وأي حل مستقبلي للأزمة السورية، لا يأخذ بالحسبان الحقوق القومية والسياسية للشعب الكردي بعين الاعتبار، ويقر بوجود إقليم غرب كردستان، فمصيره الفشل.