التحزب … ذاك الداء القاتل 

نواف بشار عبد الله 

عندما يفكّرُ الإنسانُ الواعي بالإقدام على عملٍ ما، فإنّ أوّلَ أمرٍ يتبادرُ إلى ذهنه هو التفكيرُ بحيازة أداةٍ مناسبةٍ لإنجاز ذلك العمل. وبما أنّ السياسة بحدِّ ذاتها هي عملٌ يهدفُ إلى إحداثِ تغييرٍ في الحالة السياسية- الاقتصادية والاجتماعية القائمة وتستدعي بذل الكثير من الجهد، فإنها تحتاجُ أيضاً إلى أداةٍ مناسبةٍ للوصول إلى تحقيق ذلك الهدف. والأداةُ في هذه الحالة ليست من الجماد إنّما هي أحزابٌ سياسية تصوغُ برامجَ معينة وتحددُ أهدافاً واضحة، وتضعُ استراتيجية بعيدة المدى وتكتيكات متغيرة تبعاً للظروف الموضوعية، وتقودُ مجموعة بشريةً تؤمنُ بأهدافٍ مشتركة وتنذرُ نفسَها للعمل من أجل تحقيقها وتضحّي بالنفيس من أجلها. وبعدَ إنجاز العمل، أيّ عملٍ كان، والوصولُ إلى الهدف المنشود، يتمُّ وضع تلك الأداة جانباً والبدء بالتفكير بعملٍ جديدٍ وابتكار أداةٍ أخرى تناسب وتلائم العملَ الجديد وفق الظروف الجديدة.
بالتمعّن في الواقع السياسي الاجتماعي الكردي، يبدو واضحاً أنّ هناك خللٌ كبيرٌ في هذه العلاقة، إذْ تحوّلت الأدواتُ ذاتُها لدى الكرد إلى أهدافٍ، حيث يتمُّ استخدامُ هذه الأدوات “الأحزاب” بصورة خاطئة وبغير موضعها الطبيعي. فبدلاً من أن تتجهَ كلُّ الطاقات الكردية نحو التناقض الرئيسي المتمثل بالشوفينية والجهات الحاقدة على وجود شعبنا والساعين إلى محوهِ من الوجود وتنقية الأجواء بين الأشقاء، نرى بأنّ القائمينَ على أمر غالبية هذه الأحزاب ولحساباتٍ خاطئة يغيّرونَ وجهةَ دفة الصراع نحو الداخل الكردي، فينفخون في نار الاختلافات الداخلية ويعظّمون من شأنها، وفيبنون بينهم وبين أخوتهم وشركائهم في النضال والمصير جدراناً عالية وينشغلون بصراعٍ تناحريٍّ عقيم تنسيهم هدفهَم الأساس وهو الصراع مع ناكري حقوق شعبهم وراسمي سياسات المحو والإذلال، فتذهبُ الجهود الكردية سُدىً في مهبِّ الريح، ويبقى شعبٌ يزيدُ تعدادُه عن الأربعين مليوناً بعيداً عن نيل حريته والعيش على أرضه بكرامة كسائر شعوب الأرض. كلُّ هذه الأمور دفعت بالكرد إلى الابتعاد عن “أدواتهم” النضالية وباتوا عملياً بدون أدواتٍ فاعلة تناسب العملَ المناط بها، وأصبحوا عُرضة للمزيد من الظلم والقهر في مجتمعٍ فقدتْ فيه الإنسانية معانيها وقيمَها النبيلة، مجتمعٍ يشرعنُ ويساهمُ في عملية فناءَ الضعفاء وبقاء الأقوياء!. كيف لا، ورئيسُ أكبر وأقوى دولة في العالم وفي حفل خطاب تنصيبه يرفع شعار”أمريكا أولاً” في دلالة واضحةٍ على الأنانية المفرطة لدى إدارته والتصارع لتحقيق مصالح أمريكا حتى لو كانت على حساب حياة ودماء الشعوب الضعيفة، وتجاوزٍ لدورها ومكانتها كدولةٍ عظمى يُطلبُ منها المشاركة في حلّ القضايا العالمية وتحقيق السلم والرخاء للبشرية بأجمعها. وكذلك تبجّح الرئيس الروسي بالتفاخر بالمستوى الذي وصلتْ إليه أسلحتُها المدمّرة التي أزهقت أرواح آلاف السوريين حتى باتت كل العالم يعرف أسماءَها!.
إن الآراءَ حول تشخيص الحالة الكردية لدى النخب السياسية والثقافية الكردية متعددة، فمنهم من يرى بأنّ حالة الظلم والحرمان من الحقوق هو قدرٌ محتومٌ مكتوبٌ على الجبين لا سبيلَ من تجاوزها والتخلص منها، بينما يرى آخرون بأن أصلَ الداء يكمنُ في القيادات الكردية وزعمائها غير الجديرين قديماً وحديثاً، وبتبديلها، سوف يتمّ تجاوز الحالة وتستقيم الأمور. ويرى فريقٌ آخر بأنّ حالة التشتتَ والتصارع الداخلي في المجتمع الكردي ليست وليدة اليوم أو البارحة، وهي غير مقتصرة على الأحزاب السياسية والنخب الثقافية والفكرية الكردية فحسب، بل هي موجودة ومتجذرة في أعماقنا وسلوكنا ونفوسنا جميعاً، حيث أنّ لها أسبابٌ علمية موضوعية تاريخية تمتدُّ لمئات السنين في عمق التاريخ، وكلنا يعلمُ بأنّ شاعرنا الكبير “أحمد خاني” قد اشتكى من آفة الانقسام هذه قبلَ أكثر من 350 عاماً في ديوانه “مم وزين”. ويؤكد هذا الفريقُ الذي أميلُ إلى رأيه بأن هناك عوامل عديدة أساءتْ إلى نفسية الإنسان الكردي وجعلته في حالةٍ لا يستطيع توحيد صفوفه والوقوف في وجه الطامعين في وطنه والمستفيدين من بقائه مشتتاً سهلَ المنال. فبسبب النكبات والحروب والويلات التي لاقاها الكردُ في تاريخهم على أيدي الأنظمة الغاصبة، والفشل المتكرر لثوراتهم وانتفاضاتهم التي أخمدتْ في بحور من الدماء، إضافة إلى الظلم التاريخي المستدام ومسلسلات القتل والإعدام بحق مناضليه إلى جانب بثِّ سموم فكريةٍ استعلائية ساهمتْ في تبلور شعورٍ لدى الكرد يوهمهم بتميّزهم ودونيتهم وغير ذلك، أدّت كلُّ هذه الأسباب مجتمعةً إلى حدوث تشوّهٍ في النفسية الكردية وإلحاق بالغ الضرر بها، تلك التي يؤكد علماء النفس بأنها تتأثر بالواقع والبيئة أيَّما تأثيرٍ وتأخذُ شكلاً يتوافق مع الظروف والبيئة التي يعيش فيها الإنسان. وكذلك، بفعل الآلة الإعلامية الموجَّهَة لتلك الدول، أصبحَ الكردي المنكوبُ بداء الدونية يرى نفسه كائناً هامشياً عديم النفع والقيمة، عديم الثقة بالنفس، مشكوكاً بنفسه وبكل بني قومه، يخجلُ حتى التكلّمَ بلغة أجداده أمام الآخرين كي لا يُنظرَ إليه كإنسان من الدرجات الدنيا! فيلجأ إلى التحدث بلغة الشعوب المضطهِدة والتفاخر بمعرفة تراثها وفولكلورها للتباهي بتجرده عن أصله بغية خلق نوعٍ من التوازن النفسي للاستمرار في الحياة. إن الشعور بالدونية يقرّبُ الإنسان من الموت ويفضي إلى شعورٍ خاطئٍ مفادُه أن كلُّ من ينطق بلغته أيضاً ومهما علتْ مراتبُه وتعددتْ ملكاته، إنما هو كائنٌ لا يختلف عنه في قيمته ومكانته الاجتماعية، فيراه مهزوماً مكسوراً ولا يحظى بثقته واحترامه!.. وهكذا، توارثت الأجيال جملة هذه الأمراض من أسلافها إلى يومنا هذا.
عندما يفقدُ المرءُ الثقة بنفسه وبالآخرين، وتُعمي ثقافة الإنسان المهزوم بصرَه وبصيرته، تقلُّ لديه قيمة الحياة الاجتماعية وتتفكك عُرى روابطها، ويصبحُ عرضة للعيش في حالةٍ من الانعزال والانغلاق، وتتعاظمُ لديه “الأنا” والفردية القاتلة ليتفانى في البحث عن ذاته ورغباته، ليقع فريسة سهلة في مصائد الأعداء، ولا يجدُ حَرَجاً في خيانة شعبه بغية الحصول على حظوة أو لفتةٍ من لدن محتلي بلاده وظالمي شعبه!! وهناك في التاريخ الكردي “وللأسف” العديدُ من الشواهد والأمثلة غير المشرِّفة ممن باعوا أنفسَهم لأعداء شعبهم بدواعي ومزاعم الانتقام من أناسٍ من بني قومه وإيصال رقابهم إلى حبال مشانق الأعداء!!.
من الصحيح أنّ الموضوع شائكٌ ومعقدٌ ويحتاج إلى عشرات الدراسات والأبحاث والمجلدات كي يأخذ حقه لأنه لم تقدم دراسات معمقة للمجتمع الكردي تتناول مجمل جوانب حياته والتعرف على مكامن الخلل، لكن يمكننا في هذه العجالة التأكيد على بعض الخطوط الأساسية للحل والتي يأتي في مقدمتها أن نعترفَ بأننا كشعبٍ كردي نعيش حالة خاصةً لها أسبابُها الموضوعية نتيجة اضطهادنا المزمن، والتي قد نتحملُ كشعبٍ وقيادات أحزابٍ جزءً من مسؤوليتها، إلا أن المسؤولية الأساس تقع على عاتق الدول التي تكالبت على شعبنا وأعاقت أنظمتُها السياسية ولأسبابٍ عنصرية شوفينية تطورَنا الطبيعيَّ، فمنعتْ شعبنا بمباركةٍ من القوى الدولية الكبرى من التعلم بلغته وأغلقتْ دروبَ العلم والمعرفة أمامه كي لا يرى النور ويبقى مكبلاً مطواعاً سهلَ المنال. لكن، في الوقت نفسه علينا أن ندرك وكما قال الشهيد الكردي المعروف موسى عنتر أن الظلم ليس قدرنا المحتوم، وأن حالة التشتت والانقسام التي نعيشها ليست متأصلة في جيناتنا ودمائنا، بل هي حالة طارئة تزولُ بزوال أسبابها، ويتمُّ ذلك عبرَ التسلح بالمزيد من الوعي المعرفي والتخلص من الشعور بالدونية والتسلح بعزة النفس بدلاً عنها، والاقتناع بأننا كأمة وشعبٍ لا نختلف عن الأمم والشعوب الأخرى في هذا العالم ولسنا أقلّ شأناً منها ولا أفضل. إننا نعيش على أرضنا، نتحدث ونكتب بلغتنا التي لا تقلّ جمالاً وروعةً عن أية لغة أخرى، تلك التي كُتِبتْ بها روائع الجزري وأحمدي خاني وجكرخوين وشيركوه بيكس…وغيرهم الكثير، وعلينا أنْ نعتزّ بها ونفخر. كما أنه علينا ألّا ننسى بأننا نعيشُ(وبكلِّ أسفٍ) في عالمٍ تحركه المصالح الآنية، عالمٍ لا مكان فيه للضعفاء، فإن لم نسعَ لحلّ جذري لهذه القضية كي نعززَ الثقة بالنفس ونتمكن من توحيد صفوفنا ونطالب بحقوقنا المشروعة بصوتٍ واحد يشقّ هديرُها عُبابَ السماء، سنبقى عبيداً في حظائر الشعوب التي تتحكم بمصيرنا وتتعامل معنا بلغة السوط ومنطق القوة!. لذا، ووفاءً لدماء الشهداء الذين تعجزُ صفحاتُ التاريخ عن استيعاب أسمائهم، أولئك الذين ضحّوا بأرواحهم لأجل هذه القضية، علينا أن نسرعَ في العمل لتغيير هذه الحالة وننطلق في تشجيع روح العمل الجماعي وتعزيز الثقة بالنفس وبالآخرين بدلاً من الشك والانعزالية، والعمل على تمتين الروابط الاجتماعية ونشر قيم التسامح المبنية على أسسٍ من الاحترام والتفاؤل بالمستقبل. ويقيناً، إن لم يسعَ أبناءُ هذا القوم إلى تغيير واقعهم نحو الأفضل، لن تقدمَ عليه غيرُهم.!…
قامشلي 03/03/2018
yekiti