ثورات ما تسمى بالربيع العربي، فجّرتها وسائل التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، وقادتها التنسيقيات الشبابية في البدايات، وهي أساليب حديثة ابتكرتها عقول صنّاع القرار في “الدولة العميقة” بالعالم، توافقاَ مع العولمة وما ترافقها من تطورات هائلة في مجال الإعلام والاتصالات، وهي بديلة عن الكلاسيكية كالتدخل المباشر في أفغانستان والعراق، وتندرج تحت عنوان الفوضى الخلاقة، تنفّذ برامجها وخططها بواسطة مجاميع إرهابية مصطنعة، مجهّزة بأحدث الوسائل في تنفيذ عملياتها، ومسلّحة بأشد الأفكار تكفيراً وتطرفاً كالقاعدة وداعش وبوكوحرام وأخواتها.
تدير الأزمات الخانقة والمتفاقمة (التي تخلقها الدولة العميقة وتشرف عليها) دولٌ عظمى وعلى رأسها أمريكا باعتبارها سيدة العالم ثم روسيا بمؤازرة ومشاركة منظمات دولية كالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية وغيرها، لتوفّر لها الغطاء اللوجستي والقانوني لتحركاتها وتدخلاتها، وعملياً يظهر التنافس والتسابق على المكاسب والمصالح لكل منهما، بالرغم من وجود تفاهم واتفاق خفي على الخطوط العريضة والأهداف النهائية من إثارة تلك الأزمات، وذلك تجنباً للاصطدام المباشر واندلاع حرب عالمية ثالثة غير محسوبة العواقب والتداعيات.
فالمفاوضات المستمرة الملازمة لتطورات الأحداث على مراحل تحدد سقف كل قوة فاعلة على الأرض وتعكس دورها، وهنا تتدخل الظروف الداخلية لكل بلد(كانتخابات الرئاسة الأمريكية، ومضاعفات جزيرة القرم)، والاعتبارات الخارجية في مناطق النزاع (تركيا عضو بارز في حلف ناتو، وإيران حليف فاعل لروسيا)، التي قد تعدل أو تؤخر تنفيذ المشاريع الاستراتيجية المرسومة.
بدأت الأزمة السورية باعتصامات شبابية ومسيرات جماهيرية مطالبة بالإصلاح والتغيير تحت شعار الحرية والكرامة، لكن تدخل أطراف دولية عديدة وبأجندات متعددة ومتنوعة، أخرجت زمام الأمور من أيدي أصحابها، فاختار النظام الحل العسكري والأمني، واستقوت
المعارضة بالقوى الخارجية واستسلمت لشروطها، فدخلت في صراعاتها الطائفية، واندمجت مع بعض المنظمات الإرهابية ونفذت أجنداتها، والنتيجة كانت القتل والدمار والهلاك للعباد والبلاد.
مازالت المشاهد التراجيدية المريبة والفظيعة مستمرة، وملامح الحلقات النهائية غير مكتملة بعد، وهي قيد النقاش والتفاوض والتسابق بين أطراف الصراع، إلا أن الخطوط العريضة العامة المستخلصة من قراءة الأحداث هي:
1- سيستمر مسلسل المواجهات في ظل غياب التوافق الدولي الإقليمي، وتقاسم المكاسب والحصص، وسيستغرق سنوات طويلة إلى أن تؤول الأوضاع نحو الهدوء والاستقرار بشكل نهائي.
2- لن تعود سوريا إلى سابقة عهدها قبل عام 2011 من حيث شكل وأسلوب وتركيبة النظام الحاكم، فلا بد من أن يكون تعددياً ديموقراطياً علمانياً لامركزياً كحل يرضي جميع أطراف النزاع وجميع مكونات الشعب السوري.
.3- اعتماد القرار الأممي رقم 2254 خارطة طريق للحل بدلاً من توصيات جنيف بحكم التدخل الروسي وتغييره للوقائع على الأرض، وآخرها أحداث حلب، التي أجبرت الهيئة العليا للمفاوضات بالموافقة (على لسان منسقها رياض حجاب) على التفاوض مع النظام والتخلي عن الشروط المسبقة.
4- يقوم مسؤولا الملف السوري بإعادة هيكلة المعارضة من الأطراف السياسية والمجاميع المسلحة المعتدلة تحضيراً لمفاوضات مباشرة مع النظام، وذلك بعد فصل الراديكالية عنها، فروسيا تحضّر مؤتمراً لبعض أطراف المعارضة في أسيتانا، وأمريكا تجد في ديمستورا وطاقمه الأممي المؤهل والمخول بإدارة المفاوضات النهائية.
كان ومايزال الكورد أكثر المكونات تنظيماً وتسيساً، ومرشحون دائماً للعب الدور المؤثّر والمرجّح في المعادلات السياسية، وهذا مرهون بوحدتهم صفاً وخطاباً لإثبات الحضور واحتلال الموقع المناسب واللازم للمشاركة الحقيقية والفعالة في تقرير مصير البلاد وتأمين حقوقهم القومية المشروعة، لكن الأنانيات الشخصية والحزبية والخلافات البينية (التي تعمّقها ولاءات وإملاءات القوى الكوردستانية، وتؤجّجها إجراءات وإغراءات الأنظمة الحاكمة) تجعل دورهم ثانوياً ضعيفاً، مكملاً ومشرعناً لمختلف أطراف الصراع، وتصبح الورقة الكوردية موضع المساومات والمزايدات بين تلك الأطراف لرفع أسهمها وزيادة رصيدها في الإتفاقات والصفقات.
إن محاربة الكورد لداعش ومثيلاتها دفاعاً عن الإنسانية والمدنية في العالم، وتقاطع حضورهم الجغرافي والديموغرافي مع مشروع التقسيم(الخارطة السياسية – الشرق الأوسط الجديد) المقترح من قبل مراكز القرار على أنقاض معاهدة سايكس- بيكو المنتهية الصلاحية، وكذلك نضالاتهم الطويلة المشروعة من أجل الحرية والديموقراطية والسلام لا تشفع لهم، ولا تضمن لهم تحقيق طموحاتهم بشكل كافٍ ووافٍ في ظل الاستقطابات والتجاذبات الدولية والإقليمية، ما لم يعد الكورد أوراقاً رابحة وضاغطة على طاولات الحوار، وأهمها تهيئة العامل الذاتي قبل توفّر العوامل الموضوعية، والذي يكمن في ترتيب البيت الكردي وتقوية أركانه في إطار التعاون والتنسيق وتوحيد الرؤى والجهود على الصعيد المحلي(الجزئي) والكوردستاني (العام)، والمطلوب تأمينه عبر مؤتمر قومي كوردي عام يتطلب إنعقاده في أقرب وقت، لأن القضية الكردية في كافة الأجزاء شائكة ومترابطة في الحل والمصير وتحتاج إلى مبادرات عاجلة ومعالجة.
كما كان الحضور الكردي العسكري ضرورياً في محاربة داعش الإرهابي، فإن حضوره المدني ضروري أيضاً في مفاوضات الحل السياسي السلمي، لذلك تسعى الدول العظمى (كل بأساليبه ووسائله وأجنداته الخاصة) لإعداد وفد كوردي موحد ومستقل للمشاركة في مفاوضات الحل النهائي المزمع إجراؤها بعد الانتهاء من الأعمال العسكرية، فالأمريكان وحلفاؤهم يبذلون جهوداً لتهيئة المناخات انطلاقاً من الإقليم وقنديل، في حين الروس يسارعون الخطى لبلوغ الهدف انطلاقاً من قامشلي وحميميم.
تبدي الدول الإقليمية وبخاصة المقتسمة لكوردستان ممانعة شديدة ومعارضة قوية للتغيرات والتحولات التي تحاول الدول صاحبة النفوذ إجراءها في المنطقة، وتسعى معاً لعرقلة محاولاتها وإفشال مشاريعها وخاصة ما يتعلق بالقضية الكوردية، بالرغم من الخلافات الكبيرة والعميقة بينها، مستفيدة من بعض الاختلافات التي تظهر بين أمريكا وروسيا، ومقدمة التنازلات على جميع المستويات والأصعدة للأطراف المعنية لقاء إلغاء أو تعديل في المخططات التنفيذية، والاتفاق الثلاثي الأخير في موسكو(إيران – روسيا – تركيا) دليل ساطع وقاطع على ذلك.
فما على الكورد إلا الاستعداد والتهيئة لما هو قادم من تحديات ومفاجآت، بتنشيط الحالة التفاوضية والسياسية، وذلك بالتعاطي الدقيق والتفاعل الحذر مع مبادرات كل من أمريكا وروسيا والسعي الجاد لاستثمارها، والخروج من عباءات الدول الإقليمية، والبدء بالحوار الكردي – الكردي (بدون شروط مسبقة) لإيجاد صيغة للتفاهم والتشارك، والاستعانة بالقوى الكوردستانية بما تمتلكه من خبرات وكفاءات وطاقات، والحرص والحيطة من إضاعة الفرصة التاريخية الراهنة والسانحة لتثبيت حقوقهم.
ويبقى كلمة الفصل لأمريكا بعد استلام إدارتها الجديدة برئاسة ترامب، واعتماد النسخة التنفيذية النهائية للحل، بالرغم من استعجال روسيا في جعل الأوضاع أمراً واقعاً بفعل وجودها العسكري الكثيف وإظهار نفسها صاحبة القرار والحسم، ما لم تكن أمريكا مختبئة خلفها وخلف ڤيتوياتها المتكررة في مجلس الأمن الدولي.