إدلب، مأساة إنسانية، استثمار تركي لأوضاع المدنيين واللاجئين… فوزٌ عسكري أم انتصار
الافتتاحية*
قصة أسلمة الحركة الاحتجاجية الشعبية في سوريا وتسليحها منذ بداياتها في 2011م، وتحويرها وتشويقها باسم «الثورة والجهاد» بين المسحوقين وطالبي الحرية والكرامة من أبناء شعبنا السوري، على أيادي تنظيماتٍ جهادية والإخوان المسلمين والقاعدة ومؤسسات وشخصيات إسلامية ودول داعمة… طويلة ومكشوفة، وكذلك حجم الأجندات والمصالح الخارجية الإقليمية والدولية التي خُطط لها في غُرفٍ مظلمة، والتي كانت سبباً في تجميع الإرهابيين من أصقاع العالم عبر تركيا- الناتو على الساحة السورية، أمام مرأى أجهزة استخبارات عديدة وتشجيعها، لتغدو سوريا مصرفاً لقاذورات الإرهاب العالمي، ولو على حساب دماء ومصالح أبنائها؛ حيث أن الشعب السوري بكل مكوناته دفع ثمناً باهظاً لتلك المخططات والأجندات البغيضة ولا يزال، وابتلي بتشكيلاتٍ جهادية متطرفة، على رأسها «داعش والنصرة»، لتتقدم مهمة التخلص منها ودحر الإرهاب إلى استراتيجية وطنية راهنة ومن الأولويات، باتجاه إنهاء العنف وإراقة الدماء، ولأجل إزالة عقباتٍ جمة أمام الحوار السوري- السوري وإيجاد حلٍ سياسي لأزمة البلاد، تزامناً مع مواصلة النضال السياسي السلمي الشاق والطويل لإنهاء الاستبداد برمته.
قفزت أحداث إدلب وريف حلب الغربي إلى الواجهة في الفترة المنصرمة، بعد أن وصلت اتفاقات أستانة وسوتشي إلى طريقٍ مسدود، حيث حققت قوات الجيش السوري وداعميه تقدماً في السيطرة على جغرافيا واسعة في ريفي حلب الغربي وإدلب الجنوبي والشرقي، على حساب الميليشيات الإرهابية وداعمها الجيش التركي، ولكن لا يمكننا تسمية هذا الفوز انتصاراً أو تحريراً، ما دامت تلك القرى والبلدات والمدن خالية من أهاليها، الذين هُجروا قسراً من ديارهم، وأضحى ما يقارب المليون نسمة مشردين ورهائن بين أيادي الميليشيات وتركيا، بعد وقوع خسائر جمة في صفوف المدنيين ومنازلهم وممتلكاتهم؛ فعلى الحكومة السورية والراعي الروسي الالتزام بالقانون الدولي الإنساني وقرار مجلس الأمن /2254/، وتهيئة الظروف واتخاذ اجراءات فورية وتوفير ضمانات حقيقية لعودة آمنة لللاجئين والمُهجَّرين إلى مناطقهم الأصلية، وكذلك قبول الحوار مع القوى الوطنية المعارضة وإنجاحه للوصول إلى تسوياتٍ سياسية توافقية. إن منح الثقة للمدنيين من قبل الدولة كراعية لمواطنيها، خاصةً لكبار السن والنساء والأطفال، وتوفير غطاءٍ آمنٍ لعيشهم في بيوتهم، بعيداً عن ذل ومعاناة النزوح والتشّرد، وكذلك تسوية أوضاع الذين يبغون ترك السلاح وخلع رداء الإرهاب، دون أن تُزج بهم عشوائياً وتعسفياً في غياهب المعتقلات والسجون… سوف يُسرع من انهيار التشكيلات المتطرفة وإعادة تأهيل المجتمعات المحلية وتطويرها، فلا يمكن بالخيار الأمني- العسكري وحده معالجة أزمة بلدنا، بل تحتاج أساساً لإصلاحات سياسية حقيقية.
صحيحٌ أن أنقرة فشلت في ملف إدلب سياسياً بالتباكي على معاناة المدنيين والاستثمار في مسألة اللاجئين التي تلاشى ثقل تهديدها على أوروبا نتيجة موقفها الموحد وصدها لموجة اللاجئين الذين فتحت لهم تركيا الأبواب مؤخراً ودون أن يتجاوز أعدادهم حاجز المئة ألف- أغلبهم غير سوريين- بسبب تراجع الراغبين بالهجرة عن المغامرة بحياتهم، كما أخفقت في لملمة دعمٍ دوليٍ ما، لاسيما من دول الناتو؛ إلا أنها عززت من تواجدها العسكري على الأرض السورية، ليصل أعداد جنودها إلى تسعة آلاف وآلياتها العسكرية ومدرعاتها إلى حوالي أربعة آلاف، في ما يقارب خمسون نقطة عسكرية، عدا وجود جيشها في مناطق (عفرين، اعزاز، الباب، جرابلس، كري سبي/تل أبيض، سري كانيه/رأس العين) المحتلة، إضافةً إلى بسط السيطرة المطلقة على ما يسمى بـ (الجيش الوطني السوري والجيش الحرّ) وترسيخ رعاية وتوجيه تنظيمات القاعدة المدرجة على لوائح الإرهاب العالمي، أبرزها هيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً)؛ مما حدا بالرئيس أردوغان- رغم رفض المعارضة الداخلية وخسائر جيشه البشرية- على تصعيد خطابه ضد سوريا والتأكيد على بقاء جيشه مدة طويلة فيها، بحجة التدخل بناءً على طلب (الشعب السوري)، حسبما يدعي بهتاناً، إلى جانب التهديد والتلويح مراراً باجتياح مناطق كردية أخرى في شمال شرق البلاد.
من الضرورة القصوى عودة مُهجَّري إدلب وحلب إلى مناطقهم وإنهاء مأساتهم وتخليصهم من «الدعم والرعاية التركية» المزعومة خلال مدةٍ قصيرة، وحماية المدنيين أينما كانوا وعدم استهداف المرافق العامة والمساكن من قبل قوات الجيش السوري وحلفائها، لأجل سحب الذرائع من أيادي الميليشيات الإرهابية وحكومة أنقرة وتفشيل مخططاتها في احتلال أراضٍ سورية وإحداث تغيرات ديموغرافية عليها وترسيخ نفوذها إلى أمدٍ طويل، إلى جانب اتباع أنجع السبل في تفكيك أواصر علاقة المجتمعات المحلية عن جموع الإرهابيين.
ومن جهةٍ أخرى، ما يمكن أن يساهم في ترطيب الأجواء الوطنية ويعزز من المقدرة السورية عامةً على تطويق الإرهاب ودحره، ويحدُّ من المطامع التركية، هو سير حكومة دمشق في حوارٍ جدي واسع برعاية روسيا مع الإدارة الذاتية- شمال وشرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية التي تبدي استعدادها التام له دون شروط مسبقة، ودون أن تنكر أو تتكابر على أزمة البلاد وقضاياه المختلفة، من بينها قضية الشعب الكردي العادلة، فهي قائمة وواضحة كسطوع الشمس لا يمكن إنكارها وحجبها بالغربال، وإن أي تنازلات لتركيا على هذا الصعيد تُعدُّ خدمةً مجانية لا تعود بالفائدة لسوريا بتاتاً، بل تُفاقم الأوضاع أكثر.
من شأن التقدم في خطوات الحوار بين دمشق والإدارة الذاتية أن يفتح الآفاق أمام حوارٍ سوري – سوري أشمل، وبالتالي التوجه نحو حلٍ سياسي ما، تحت إشراف الأمم المتحدة، ومن ثم إنهاء الاحتلال التركي في الشمال السوري وحماية وحدة أراضي سوريا واحترام سيادتها، على أساس بناء دولة ديمقراطية تعددية برلمانية لامركزية.
* جريدة الوحـدة – العدد 317 – شباط 2020م – الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).