انتجت الانتفاضة الشعبية السلمية في سوريا بعد اصطدامها بالعنف الحكومي معارضات سياسية وعسكرية مختلفة الأوجه والفكر. وجذب فيما بعد الثنائي النظام والمعارضة، المسلحين والميليشيات الطائفية من أصقاع مختلفة، مما أدى إلى اختلاط الحابل بالنابل وبالتالي فتح الشهية لدى قوى إقليمية ودولية للتدخل بشكل مباشر أو عبر ميليشياتها تحت ذرائع لا تحصى ومن أهمها محاربة الإرهاب، الذي لا أفق من نهاية قريبة له رغم هذا التجمع العالمي الكبير ضده في سوريا والعراق.
تتوضح أهداف الفاعلين والمؤثرين في الساحة بعد ست سنوات من الحرب السورية أكثر من ذي قبل. فبالإضافة إلى التنافس الدولي في البلدين، فقد ظهر أيضاً حقيقة الصراع الثلاثي المتشابك والمتداخل الكُردي ـ التركي ـ الإيراني، فإذا كان الأول لمع نجمه ويريد استعادة حقوقه وبناء دولته، فإن الأخيرين يريدان التوسع واستعادة الأمجاد.
تهدف إيران حالياً إلى شق الطريق البري من مدينة الموصل عبر دير الزور وصحراء حمص إلى مدينة دمشق وبيروت والبحر المتوسط، وتعبيده بالموالين لها، يذكر إن هذا الخط كان قائماً قبل سيطرة تنظيم “داعش “على طرفي الحدود بين سوريا والعراق، والذي قطع أوصاله فيما بعد، زد على ذلك إن لإيران امتدادات وأذرع في اليمن وبحرين ومناطق أخرى.
بينما تحاول تركيا بدورها، المنافس التاريخي لإيران إلى تقليدها وأيضاً وضع الحد لاستطالاتها في المنطقة على قدر المستطاع عبر الدعم الطائفي والتمدد في العالم السني وخاصة العربي إذا جاز التعبير. تركيا هي التي احتلت شمال قبرص قبل عقود وتحتل اليوم جزءاً من روجافا كردستان ـ شمال سوريا وعينها على كردستان ـ العراق ـ شمال العراق الحدود الدولية للعراق بما فيه الموصل وكركوك أيضاً.
تشعر تركيا بأن إيران حليفة روسيا بدأت تحل محلها لدى الغرب وذلك بعد اتفاقها النووي مع الأخير في العام الفائت مقابل إطلاق يدها في المنطقة. فهي ترى بأم عينها كيف تقاتل حلفاء إيران في العراق ضد تنظيم “داعش” وتتلقى الدعم الكامل من أمريكا، وكما تقاتل ميليشياتها وحلفاؤها بجانب قوات النظام السوري دون أن يحاسبها أحد من الكبار.
تستخدم تركيا حججاً عديدة لتبرر تدخلها وغزواتها بحق الدول المجاورة ومن أهمها حماية أمنها الوطني والقومي من خلال ملاحقة حزب العمال الكٌردستاني وحماية التركمان والعرب السنة إضافة إلى اعتراف أردوغان مؤخراً برغبته في تعديل اتفاقية لوزان 1923 لاستعادة أطلال العثمانية.
تركيا في الحقيقة تهدف بالدرجة الأولى إلى إبقاء إقليم كردستان العراق تابعاً اقتصادياً لها وإلى تقويض أي كيان كُردي آخر في سوريا لأنها تعلم أن إنشاء مثل هذا الكيان إنما من شأنه أن يؤثر عليها وبالتالي ربما تقليص مساحتها. لذا كان غزوها لمدينة جرابلس السورية هو لتصدير مشكلتها الكُردية إلى الخارج أولاً, وإزالة آثار محاولة الانقلاب الفاشل وإعادة الهيبة للجيش التركي وإلهاء الشعب التركي بقضية خارجية.
وإذا نجحت تركيا بتشتيت الجغرافية الكُردية السورية فإنها ستخطي الخطوة الثانية للوصول إلى مناطق سيطرة “داعش” وتبديلها بعناصر سنية متحالفة معها لضمان استمرار قطع أوصال الخط الإيراني بين سوريا والعراق وبالتالي السير إلى العمق العربي ما بعد سوريا.
من جانبها، تحاول منظومة العمال الكُردستاني وحلفاءها مد نفوذها إلى البحر المتوسط، فإن للعمال الكردستاني عناصر وموالين بقرب كركوك وفي منطقة سنجار (شنغال) ووحدات الحماية الكُردية في الجانب الآخر من الحدود ضمن قوات سوريا الديمقراطية التي تسيطر على معظم الشريط الشمالي لسوريا.
هذا يعني بأن تركيا ستكون محاصرة من منظومة العمال الكردستاني وحلفاءها ابتداءً من جبال قنديل في كردستان العراق إلى البحر المتوسط إضافة إلى النار الكُردي العمالي في داخلها، والأهم إن هذا الشريط الكُردي سيقطع كل صلاتها البرية والجغرافية مع العالم العربي وكما ستكون مناطق نفوذ حلفاء العمال الكُردستاني ممراً آمناً لنفط وتجارة إقليم كُردستان عبر البحر وبالتالي التخلص من التبعية الاقتصادية لتركيا على رغم من الاختلاف السياسي والفكري بين القطبين الكُرديين.
هذا التشابك في الخطوط البرية والمشاريع السياسية من شأنه أن يجلب المزيد من الويلات إذا لم يصل المعنيون إلى اتفاق يضمن مصالح الجميع.مع ملاحظة أن الدول العربية اليوم أشبه بالرجل المريض أمام الزحف التركي والإيراني والتدخل الدولي.
ويبقى القرار النهائي بيد الروس والأمريكان أي بيدهم المتر والقماش كما يقال.