لكل إنسان مُرشِدَين، و تقديره لوجوده مبنيّ علی تقديره للقيمة النسبية لنصائحهما، تلك هي أهم حقيقة أصلية للواقع الإنساني، و كل حل فلسفي لا بد من إمتحانه، بالرجوع اليها. و حينما يغرس الواحد منا اصبعه في التربة فيعرف الأرض التي ينتمي اليها من الرائحة التي يشمّها، إنها أرض كوردستان.
من المعلوم بأن حق تقرير المصير يمارس عن طريق الديمقراطية والوسائل المتحضرة، منها الإقتراع. لكن ما العمل، إذا ما أنكرت القوى المهيمنة على السلطة داخل الوحدة السياسية التي يعيش الشعب فيها أو القوى الاستعمارية تطبيق هذا السبيل المتحضر وأنكرت على الشعب الكوردستاني حقه في تقرير مصيره؟
فإذا أقفلت أبواب الديمقراطية ورفضت كافة الوسائل العصرية السلمية لإسترداد هذا الحق المشروع فلابد للشعوب من أن تمارس حقوقها بالکفاح المسلح و هو مايسمی سياسيا بالكفاح المسلح أو تقرير المصير الثوري.
وهذا النوع من الكفاح الوطني المسلح أقرته الأمم المتحدة بقراراتها وإعلاناتها والمواثيق التي أقرتها ومارستها، لذا لايعتبر الكفاح من اجل تقرير المصير إرهاباً.
وإن مبدأ حق تقرير المصير كان موجوداً قبل أن يندرج في دساتير الدول والمواثيق الدولية والإقليمية ، وكان شعاراً سياسياً او مبدأ ايديولوجياً تستخدمه الأمم في نضالها او وحدتها القومية او لإستقلالها الوطني. والدستور في العراق الفيدرالي الاتحادي، بعد سقوط الطاغية صدام و نظامه القمعي، أعطی هذا الحق للشعب الكوردستاني و إقليم كوردستان.
المادة الأولى، الفقرة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة، تقتضي و تهدف الی ” إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها”.
ومن الواضح بأن هذا الحق لايمكن ممارسته إعتباطياً، بل بنصوص و مضامين منطوية على تحرير الشعب وأرضه دون قيد أو شرط أو تزييف أولاً و إزالة مختلف القيود والضغوط التي تؤثر سلباً في تعبير الشعب عن إرادته ثانياً. والاخيرة تمارس عن طريق إجراء استفتاء حر ونزيه توصل الی نتيجة، عندها فقط يمكن القول أنها تعبر عن إرادة الشعب بشان تقرير مصيره.
وإذا تم تفسير هذا الحق من منظار ضيق، فهو يعني الاستقلال وإقامة دولة لها سيادة، لأن الاستقلال هو الهدف المطلوب الذي ترجو الشعوب تحقيقه وهي تمارس هذا الحق ، الذي يعتبر حقاً مشروعاً كرسته وأقرته كل أحكام ومبادئ القانون الدولي العام المعاصر.
والجدير بالذكر أن ميثاق الأمم المتحدة قد نص على حق الشعوب في تقرير مصيرها، إلا أنه لم يحدد الوسائل التي من خلالها يمكن الحصول على هذا الحق، وهو ما تكلفت به الجمعية العامة من خلال ما أصدرته من قرارات أكدت فيها شرعية استخدام القوة للوصول إلى تقرير المصير.
وفي عام 1962 صدر الجمعية العامة قرار مهم حمل الرقم 2955 حول حق الشعوب في تقرير المصير والحرية والاستقلال وشرعية نضالها بكل الوسائل المتاحة والمنسجمة مع ميثاق الأمم المتحدة، كما طلبت من جميع الدول الأعضاء في قرارها رقم 3070 الصادر عام 1973 الاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها واستقلالها وتقديم الدعم المادي والمعنوي وجميع أنواع المساعدات للشعوب التي تناضل من اجل هذا الهدف.
التواصل في عصر التحولات المتسارعة والطفرات المفاجئة في المعلومات والمعطيات يصنع الحضور، وأن الحداثة هي جهد و اجتهاد، مراكمة و تكديس، عمل و مراس، صناعة وتحويل، بناء و تركيب، علی نحو متواصل و بصورة نتغير بها بتغيير صورتنا عن أنفسنا وعن العالم، عبر المشاركة في ورشة الخلق والإنتاج.
فبعد تدمير أكثر من خمسة الآف قرية كوردستانية علی يد الأنظمة الشوفينية التي کانت تحکم في بغداد وأنفلة ما يقارب 200 الف من أبناءه وقصف مدن كوردستانية بالاسلحة الكيمياوية و إعدام الآلاف من ثوار الكورد لا يمكن أن يطلب من الشعب الكوردستاني أن ينتظر كي يُلدغ من جُحرٍ مرتين
إن عدم إحتكام الحكومة الفيدرالية الی الدستور في ظل هذا الوضع الراهن المليء بالمحاذير و الباعث للقلق، کإتساع رقعة حرب داعش والأزمة الإقتصادية وترهل الجهاز الحكومي و تدهور كفاءة الإدارة وشيوع الفساد والمحسوبيات وتفاقم الفضاء السياسي بسبب تفعيل قوی طائفیة ، الجامدة عقائدياً والمعادية للديمقراطية الجذرية ، قاد العراق الی هذه النتائج الكارثية التي نعیشها الآن.
هذا ما لا يرضاه الشعب الكوردستاني، لذا يری نفسه ملزماً ومن أجل التعبير عن إرادته الی تأسيس “الكتلة التاريخية” كما طرحه المنَظّر اليساري أنطونيو غرامشي (1891-1937) في إيطاليا تضم كافة القوی السياسية ومنظمات المجتمع المدني هدفها القيام بنهضة من أجل الحفاظ علی مكتسبات الشعب الكوردستاني والعمل علی تثبيت “التعايش السلمي” مع القوی الديمقراطية العراقية في سبيل صهر الخلافات التي تصدع الشعبين العربي والكوردي في العراق والسيطرة على النزاعات قبل أن تتفاقم المشكلات وتستفحل.
إن تداعيات الحرب في سوریا و إحتلال تنظیم “الدولة الإسلامیة” أو مایسمی بداعش لمناطق واسعة في العراق وسوریا، وما ظهر بسببهما من تأزمات وحراك سياسي في أقطار عربية أخری، أوجدت ظروفاً تفرض علی الحکومة العراقية مراجعة أوضاعها، وبذل أقصى الجد في العمل مع بنود الدستور وإصلاح أخطائها قبل أن تزداد الوضع تفاقماً، لأن الإتفاقات الغير شفافة مع دول الجوار للهيمنة علی الاقليم والاستخفاف بالاتفاقات السياسية في السابق و قطع حصة الإقلیم من الموازنة العامة لفرض صيغة مركزية وتكريس الدكتاتورية و عدم الالتزام بالدستور ، کل تلك المواقف أدت الی إتخاذ موقف صريح و حازم من قبل “الكتلة التاريخية” لمصلحة شعب كوردستان.
وکما قال الرئیس مسعود بارزاني في آخر خطاب له:” لقد تم تقسيم كوردستان بسبب الإخطاء التي أرتكبها البعض وهم يعرفون جيدا هذا الأمر إلا انهم غير مستعدين للإقرار بفشلهم، فلن يستطيع أحد أن يمنع الشعب الكوردستاني من التعبير عن تقرير مصيره، فكيفما كانت لأسكتلندا وكاتالونيا وكيوبيك حق تقرير المصير، فإقليم كوردستان ايضا تمتلك هذا الحق الذي لا نقاش فيه”.
وختاماً لكم القول المأثور: “لكي يكون الجميع للوطن يجب أن يكون الوطن للجميع. وما لا ترضاه لنفسك لا تصنعه لغيرك”.
د. سامان سوراني