قبل الدخول في ثنايا هذا الموضوع، لا بد أن نعرف ماذا تعني كلمة الملكية، فالملكية هي علاقة حقوقية بين أشخاص بصدد الأشياء، وهي علاقة تجعل فرداً (أو جماعة) يحوز (أو تحوز) شيئاً و يعترف له (أو لها) بأن لهم حق التصرف حصراً بذلك الشيء، وتمنع بذلك الآخرين عن حيازته، ومن ثم عن استعماله والتصرف به.
يقول جان جاك روسو: ” إن أول إنسان سوّر قطعة من الأرض، وقال: هذه الأرض لي، ووجد حوله أناساً بلغت سذاجتهم درجة تصديقه كان هو المؤسس الحقيقي للمجتمع المدني،”[1] في هذا الإطار كان من الممكن تفادي العديد من الجرائم والحروب والمآسي بعدم الإصغاء إلى هذا الدجّال، وعدم تصديق مزاعمه الباطلة، لأن الأرض ليست مزرعة لإنسان.
وفي السياق نفسه نجد أن الملكية هي السرقة لدى برودون، وهي انتزاع للتخلق عند نيتشه، حينما ترفع الحدود التي تفصل أرضاً عن أرض. ومن الجلي أن هذه الآراء على الرغم من اختلافها، تترجم أصداء الإبهام الأساسي الذي يلازم مفهوم التملك الذي أثار وما يزال يثير طائفة كبرى من المناقشات والخصومات.
إن الملكية الفردية ليست هي الشكل الأول الذي عرفه التاريخ في تطوره، ففي مرحلة الحياة الزراعية كانت هناك ملكية مشاعية للأرض، وكانت وقفاً على العشيرة أو القبيلة وكانت تستثمر استثماراً مشتركاً، ولم يكن رب الأسرة، أو الأب، المالك الحقيقي إلا بعد تطور اجتماعي – اقتصادي حين قسمت الأرض المزروعة إلى حصص ووزعت بين الأسر، ثم تطورت النزعة الفردية، وبقيت الحصص ملكاً لجماعات الأسر الأبوية، حتى ظهرت الملكية الفردية والوراثية. وفي العصر الوسيط سادت الملكية الإقطاعية، وقد أعلنت وثيقة حقوق الإنسان في الثورة الفرنسية أن حق التملك مقدس لا يمكن المساس به، ولا يجوز أن يحرم منه أحد إلا إذا دعت الضرورة العامة لذلك، وازدهرت في أعقاب البورجوازية الحركات الرأسمالية ثم الاشتراكية، وسادت في عصرنا الملكية الفردية أو الملكية الجماعية، على تفاوت يجعل الملكية الفردية صنو الحرية في أصقاع من الأرض، و لا تمنع الملكية الفردية إلا في حدود ضيقة.
كما أن حقوق الملكية الفكرية تثير قضايا مفهومية وعملية معاً، وتعبير الملكية الفكرية، “في حد ذاته تعبير مضلل لأنه يستند إلى التشابه الجزئي المزيف مع الملكية المادية الملموسة.”[2] السمة الأساسية للملكية المادية أن قيمتها مستقاة من استخدام المالك لها، ولكن الملكية الفكرية تستقي قيمتها من استخدام الآخرين لها، فالمؤلفون يريدون لأعمالهم أن تقرأ، والمخترعون يريدون لاختراعاتهم أن تستخدم، براءات التسجيل وحقوق النشر تضمن أن يتلقى المبدعون مكافآتهم، لكن النقود ليست بالضرورة الوسيلة الوحيدة للمكافأة التي يسعون إليها، فالعلم الخالص، على سبيل المثال، تعود ملكيته تقليدياً إلى الجمهور، وقد جاهد العلماء من أجل الحصول على الاعتراف الفكري أكثر من حصولهم على المكافآت المادية. وساعدت مؤسسة براءات التسجيل وحقوق الملكية الفكرية على تحويل النشاط الفكري إلى نشاط تجاري، وهذا النشاط بالطبع حافزه الربح، ويمكن القول إن هذه العملية قد أخذت بعداً زائداً عن الحد، فحماية براءات التسجيل والإبداع ضرورية بالطبع لتشجيع الاستثمار في الأبحاث، ولكن ثمة شيء ضائع عندما يصبح العلم، والثقافة والفن تحت سيطرة حافز الربح.
ومهما يكن من أمر الوسائل والطرائق التي أنضجت عبر التاريخ مفهوم التملك أو الملكية، فإن مردّ هذا المفهوم يرجع إلى فكرة النفع الناجم عن علاقة الناس بالأشياء، بل علاقات الناس بعضهم بالبعض بصدد الأشياء إنتاجاً بالعمل، أو مبادلة بالتجارة، أو إرثاً، أو هبة أو سرقة، وهذا النفع يعتبره الاقتصاديون مصلحة فردية، أو على الأقل الحافز الأساسي للفاعلية الإنسانية بأسرها، فما هي التقديرات الأخلاقية التي تكتنف هذا المطلب النفعي الرئيسي في سلوك الناس ؟ إن الأخلاق الاقتصادية الراهنة تنظر اليوم إلى الملكية على أنها وظيفة اجتماعية توجب على الفرد أن يعمل، وهو يعي أن أدوات عمله نتاج اجتماعي يجسد عدداً كبيراً من الاختراعات التي تؤلف خيراً اجتماعياً، أو رأسمالاً جمعياً، وأنه لم يكن من الممكن صنعها دون تعاضد.
إن امتلاك بعض وسائل العمل كالأرض والآلة والأدوات تستند إلى الأساس الأخلاقي نفسه الذي يجعل للعامل الحق في امتلاك نتاج عمله كله، وعلى المجتمع أن يعمل على توزيع عادل للخيرات كافة، وقد ازداد مطلب إقامة نظام جديد للملكية اتضاحاً بعد الحرب العالمية الثانية، ولا ريب في أن قانون الملكية، وأخلاق التملك، سيتحولان جذرياً، غير أن المشكلات الأخلاقية التي كانت تطرح بصدد الملكية الخاصة، ستطرح مرة أخرى على صعيد الملكية العامة على الرغم من اتساع القطاع المؤمم في بلدان شتى من الشرق والغرب.
يحتاج الإنسان في حياته الإنسانية، الفردية والاجتماعية، إلى مجموعة من الأهداف اللامادية. ومن المسلّم به أن أية مدرسة اجتماعية تحتاج إلى وجود مجموعة من الأهداف المشتركة بين جميع الأفراد، ذلك أن هذه الأهداف المشتركة إن عدمت فإن الحياة الاجتماعية بمفهومها الواقعي ـ أي الحياة المنظمة ـ تعود غير ممكنة. فالحياة الاجتماعية معناها التعاون، والتعاون في مجال الأهداف المشتركة ممكن، أما إذا لم يوجد هدف مشترك فإن هذا الإمكان ينتفي، وإن الهدف المشترك يعم الأهداف المادية والمعنوية.
فمن الممكن أن يكون الهدف المشترك لجميع الأفراد هدفاً مادياً مثل: الشركات التجارية والصناعية للأفراد المشتركين في تأسيسها، حيث يجتمع عدد من الرأسماليين ويؤسسون شركة تجارية أو صناعية، أو يتفق صاحب رأسمال مع أصحاب سواعد عاملة، فالعمل والساعد من أحدهما، ورأس المال من الآخر ثم يأتي العمل المشترك.
إلا أن المجتمع الإنساني لا يمكن أن يُشكل تماماً كما تشكل الشركات، بمعنى أنه لا يمكن أن يكون أساس الحياة الاجتماعية شركة كبرى قائمة على المصالح المادية لا غير، وإلاّ فإن البعض يفترض هذا التصور، وها هو الفيلسوف برتراند راسل يبني أخلاقه على هذا الأساس، لأنه لا يرى للأخلاق أساساً اجتماعياً سوى المنافع الفردية، إنه يقول: “إن أخلاق المجتمع في الواقع نوع من التعاقد يقوم به الأفراد، ذلك لأن الأفراد جميعاً يدركون أن الحفاظ الأفضل على منافعهم يقتضي أن يراعي كل منهم حقوق الآخرين ووجودهم.”[3]
وفي الواقع فهو يرى أن أساس الاحترام للحقوق الفردية هو أن يحترم عدد من الشركاء حقوق كل فرد منهم لأنهم يرون أن مصلحة الفرد تكمن في التعاون، وعلينا أن نبحث عن دوافع اعتداء الأفراد على غيرهم ثم نعمل على محو هذه الدوافع، وليس من الضروري أن تكون تلك الدوافع وجدانية أو نفسية، أو نتيجة إتباع مدرسة خاصة وتربية معينة، ولتوضيح مقولته، يقول: “لنفترض أنكم اعترفتم بعدم وجود مانع ورادع للقوي حين يصمم على ظلم الضعيف، ولكننا لمعالجة ذلك يجب أن نبني المجتمع على النحو الذي لا يتضمن وجود قوي وضعيف، ما يتطلب أن نكتشف، في أي شيء يكمن أساس القوة والضعف؟ فإذا استطعنا القضاء جذرياً على هذا الأساس، كان أفراد المجتمع على حد سواء، وحينئذ نجدهم يمتلكون الاحترام المتبادل لحقوق الأفراد لأنهم متساوون،”[4] ويعتبر هذا الاتجاه أن الملكية هو أساس ذلك التفاوت بين البشر في القوى والقدرات السياسية والاجتماعية.
أما بالنسبة لموضوع العمل، فهو كلمة تدل على ممارسة طاقة تنتج نتيجة، وبمعنى أشمل: العمل هو الجهد المبذول لصنع شيء، إنه ممارسة فاعلية إنسانية ابتغاء غاية نفعية، وقد تدل كلمة العمل على ممارسة حرفة يدوية أو مهنة يكافأ العامل على القيام بها، وقد يكون العمل بطبعه يدوياً أو فكرياً، وعلى هذا فإن معنى العمل يشمل بآن واحد العمل اليدوي والذهني، عمل التنفيذ وعمل التصور وعمل الإدارة. ومن المعروف أن العمل وقف على الإنسان، لأن الإنسان كائن مفكر، بالعمل يحقق الفرد مصيره ويسهم في الحياة الاجتماعية، والعمل في عصرنا هو الوسيلة الأساسية للحصول على الموارد الضرورية للعيش في نطاق الكرامة الإنسانية، والعمل بوصفه وظيفة اجتماعية يؤلف الموهبة الخاصة بكل فرد ضمن تنوع الخدمات والجهود التي تتطلبها الجماعة بأسرها، ومن احترام النظام الاجتماعي احترام أبسط عامل يقوم فيه بعمله، وهذا الوعي بدور العمل والعامل هو الذي يسوغ كرامتهما. فبالعمل يحتفظ الإنسان بنبله بين الناس، وهو لا يعيش طفيلياً يستغل جهودهم، وبعبارة أخرى، تذهب الأخلاق الراهنة إلى أن العمل هو بآن واحد واجب وحق، إنه واجب، لأن من يقدر على العمل ولا ينهض به يفرض على البشرية مؤونة إعالة طفيلي، وهو حق لأنه بالنسبة لكل فرد الوسيلة السوية لعيشه وحريته، وأن شرعة العمل تمثل أخلاقياً في تأكيد ثلاثة حقوق هي: الحرية، المكافأة، والمعاملة الإنسانية.
لكن في ظل أخلاقيات العمل، يظهر موضوع التفاوت الاجتماعي الذي يعتبر ظاهرة طبيعية، وجدت في جميع أشكال المجتمعات البشرية والنظم الاجتماعية، بسبب التفاوت في قدرات الناس وإمكانياتهم، لكنه اتخذ أبعاداً متعددة، تختلف أهميتها باختلاف طبيعة النظم الاجتماعية والاقتصادية، ودرجة تقسيم العمل، وبقدر ما يزداد تقسيم العمل تعقيداً في ظل هذه النظم الاقتصادية والاجتماعية يتعاظم التفاوت الاجتماعي، وتتسع أبعاده لتطال البعد الاجتماعي والاقتصادي وغيره من الأبعاد. لكن الترابط القائم بين الشخص والمجتمع على قاعدة المبادئ والقيم يؤدي إلى الخير العام، ولاسيما لدى تمكين الإنسان من كل ما يحتاج إليه لكي يعيش عيشة إنسانية حقيقية، مثل الغذاء، اللباس، وحق الاختيار الحر لنوع الحياة الذي يريد، وحق العلم في الإطار الديمقراطي.
لقد برزت أخلاقيات الأعمال كمجال في السبعينيات، بينما لم تظهر أخلاقيات الأعمال الدولية حتى أواخر التسعينيات، حيث نشأ العديد من القضايا الجديدة العملية ضمن السياق الدولي للأعمال التجارية، قضايا مثل النظرية النسبية الثقافية والقيم الأخلاقية.
غالباً ما تستخدم البلدان الخارجية الإغراق باعتباره تهديداً تنافسياً، وبيع المنتجات بأسعار أقل من قيمتها العادية، وهذا يؤدي إلى مشاكل في الأسواق المحلية، فيصبح من الصعب لهذه الأسواق منافسة الأسعار التي تحددها الأسواق الأجنبية، في عام 2009، بحثت لجنة التجارة الدولية في قوانين مكافحة الإغراق، وغالباً ما ينظر إلى الإغراق على أنه قضية أخلاقية، وتستفيد الشركات الكبيرة من شركات أخرى أقل تقدماً من الناحية الاقتصادية.
هذا المجال مبهم، وربما لا يشكل جزءاً من أخلاقيات الأعمال، لكنه ذو صلة بها، حيث “يغامر أخلاقيو الأعمال بالدخول في مجالات الاقتصاد السياسي والفلسفة السياسية، مع التركيز على الحقوق والأخطاء في النظم المختلفة لتوزيع المنافع الاقتصادية. ويعتبر جون راولس، روبرت نوزيك من أبرز المساهمين.”[5]
و يمكن أن تدرس أخلاقيات الأعمال من زوايا جديدة مختلفة، بما في ذلك وجهة نظر الموظفين، والمؤسسات التجارية، والمجتمع ككل، في كثير من الأحيان، تنشأ حالات نزاع بين طرف أو أكثر، بحيث تخدم المصلحة طرف واحد على حساب الآخر، على سبيل المثال، قد تكون النتيجة جيدة بالنسبة للموظف في حين إنها تكون سيئة بالنسبة للشركة، والمجتمع، أو العكس بالعكس.
يختلف الفلاسفة وغيرهم حول الغرض من أخلاقيات الأعمال في المجتمع، على سبيل المثال، منهم من يقترح أن الهدف الرئيسي من الأعمال تحقيق أقصى عائد إلى أصحابها، أو في حالة تداولها علناً، إلى مساهميها، وبالتالي، في إطار هذا الرأي، يجب فقط تشجيع أنشطة زيادة الربحية والقيمة العالية للمساهمين، لأن أي وظيفة أخرى يكون ضريبة على الأرباح.
بينما يعتقد آخرون أن الشركات الوحيدة التي يرجح أن تبقى قادرة على المنافسة في السوق هي تلك التي تضع تعظيم الربح فوق كل شيء آخر، ومع ذلك، تشير بعض النقاط إلى أن بعض المصالح الذاتية لا تزال بحاجة إلى أعمال للانصياع للقانون والالتزام بالقواعد الأخلاقية الأساسية، لأن عواقب الفشل في القيام بذلك قد تكون مكلفةً جداً في الغرامات، وفقدان الترخيص، أو سمعة الشركة. وأشار إلى ذلك الخبير الاقتصادي ميلتون فريدمان الذي كان في طليعة مؤيدي هذا الرأي.
هناك منظّرون آخرون يؤكدون أن الأعمال التجارية والواجبات الأخلاقية التي تتجاوز بكثير خدمة مصالح مالكيها أو حملة الأسهم، وهذه الواجبات التي تتألف من أكثر من مجرد طاعة القانون. إنهم يعتقدون أن الأعمال هي بقدر المسؤوليات الأخلاقية للأشخاص الذين لديهم مصلحة في تسيير الأعمال، والتي قد تشمل الموظفين والعملاء والموردين، والمجتمع المحلي، أو حتى المجتمع ككل، أصحاب المصلحة ويمكن أيضاً أن تقسم إلى أصحاب المصلحة الأولي والثانوي، أصحاب المصلحة الأساسية هم الذين يتأثرون مباشرة مثل أصحاب الأسهم، لأن أصحاب المصالح الثانوية هم الناس الذين لا يتأثرون بشكل مباشر مثل الحكومة.
لقد تبنى قسم من المنظرين نظرية العقد الاجتماعي للأعمال، حيث أصبحت الشركات جمعيات شبه ديمقراطية، والموظفون وأصحاب الأسهم الآخرون لهم أصوات في عمليات الشركة. أصبح هذا الأسلوب يحظى بشعبية خاصة لاحقة لإحياء نظرية العقد في الفلسفة السياسية، الذي يرجع إلى حد كبير للفيلسوف جون راولز صاحب نظرية العدالة، وظهور توافق في الآراء على نهج يركز على حل المشاكل التجارية، مثل حل مشكلة الجودة التي ظهرت في الثمانينيات. لذا نجد أن توماس دونالدسون وتوماس دونفي يقترحان: “صيغة لنظرية العقد للأعمال التجارية، التي يسمونها بنظرية التكاملية الاجتماعية للعقود.”[6] إنهما يفترضان أن المصالح المتضاربة هي أفضل حلٍّ من خلال صياغة اتفاق عادل بين الطرفين، وذلك باستخدام مزيج من مبادئ الاقتصاد الكلي. لكن منتقدو هذه النظرية يرون أن أنصار نظرية العقد يغفلون نقطة مركزية، وهي أن العمل ملك لشخص، وليس ملكاً لدولة، وبالتالي لا يمكن أن يكون وسيلة لتوزيع العدالة الاجتماعية.
إن مسألة العدالة والمساواة هي مسألة راهنة ترتبط بمركزية العمل كقيمة مرجعية تشترط تحقيق مشروع المساواة وخاصة المساواة الاجتماعية في ظروف الوجود الفردي والاجتماعي. ولا نستطيع أن ننكر اليوم أن العمل يمثل سجلاّ محدداً للعدالة، إذ يمثل أحد شروط مصداقية المواطنة وهو ما تشهد عليه وضعية البطالة التي تؤكّد هذا الترابط بين العمل والعدالة. ورغم أن مثل هذا الإقرار يصدم المواطن المقتنع بغربة المجال السياسي بما هو مجال الحرية والمواطنة، على مجال العمل كفضاء مرتبط بالحاجة البيولوجية، إذ ليس هناك تطابق في الفكر القديم بين نظام الروح ونظام الحياة بما أنّ إجبار العمل يمنع من تحقيق المواطنة بالكيفية التي تجعل الحدود بين العملة والذين لا يعلمون هي الحدود نفسها بين المواطن والعبد، فإن الأمر مختلف تماماً اليوم، إذ يمثل العمل شرط الولوج إلى المواطنة عبر المساواة الفعلية، وهنا يلاحظ أنه هناك انقلاباً كلياً في النظر إلى العمل، فمن العمل كعلامة إقصاء للمواطنة إلى العمل كشرط للمواطنة.
غير أنّ مسألة العمل والعدالة تطرح مفارقة واضحة، فمن جهة يتأسس العمل المأجور على المرؤوسية والامتثال، و من جهة ثانية يعتبر كأساس للحرية الواقعية والعدالة الفعلية، وهذا يعني أن مقولة (عمل – عدالة) هي مقولة حديثة العهد، ومع ذلك يتمتع بمشروعية غير قابلة للنقاش، ناهيك عن أن حق العمل هو موضوع المادة الثالثة والعشرين من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو حق مشروع في كلّ الدول المتقدمة.
لكن هذه المقولة تبقى موضوعاً للنقاش، موضوعاً محفوفاً باللا يقين الناتج عن الشك المتواصل الذي يحف بمفهوم العمل وبمفهوم العدالة. حيث يفهم العمل هنا بعيداً عن المطارحات الفلسفية، فلا يتعلق الأمر بالعمل من جهة أنه يمثل كلّ أشكال النشاط المشكل للمادة أو الأفكار، ولكن العمل باعتباره إجباراً وضرورة، العمل باعتباره نشاط، أي ترجمة النشاط الشاق في وضعيات وأدوار اجتماعية بما في ذلك توزيع المكافآت الفعلية والرمزية التي ترافق نشاط عمل معترف به كنافع اجتماعياً مثل الأجر، الترقيات، الامتيازات التي تسند لنشاط دون آخر. أما مفهوم العدالة فقد ظلّ موضوع اختلافات عديدة بين المفكرين والفلاسفة، اختلافات يمكن إرجاعها إلى صنفين عامين أحدها اعتبار العدالة كمساواة وهذه العدالة غير منصفة لأنها لا تأخذ بعين الاعتبار جدارة أو أحقية بعض الأفراد، وثانيها اعتبار العدالة كإنصاف و هذه العدالة لا تقتضي المساواة.
ولأن العدالة كالمساواة هي أمر لا يمكن تحقيقه، فقد فشل النظام الاشتراكي في الدول الشرقية على تحقيقه، ويبرهن على ذلك جون راولس، حيث ينادي “بتحقيق العدالة كإنصاف،”[7] وذلك يعني بالنسبة إليه تصحيح اللا تساوي بين الأفراد، إذ تتأسس نظرية العدالة عند راولس على توزيع منصف للخيرات، لذلك يرفض تصوّر النفعيين للعدالة، هذا يعني أن تصوّر راولس للعدالة يقدم هنا مظهراً توزيعياً مؤسساتياً، ولذلك يؤسس العدالة كإنصاف بالنسبة لمجموع الأفراد المتعاقدين بهدف الحدّ من اللا مساواة، وهذا الأساس التعاقدي للعدالة يمكّن الأفراد من تشريع القوانين بطريقة ذاتية، عوضاً عن أن يتقبلوها من الخارج، وهكذا يسهل تطبيق القانون دون الحاجة إلى القوة. وهذا يعني أن العدالة حسب راولس ليست إلا فرضية، فالعدالة لا تمثل قيمة جوهرية مثلما هو شأن الحرية والمساواة والاحترام، بل ليست إلا تعبيراً عن علاقة توازن بين القيم والمبادئ التي يضعها مجتمع ما كمراجع وبين واقع الممارسات الفردية والجماعية في هذا المجتمع، هذا يعني أن العدالة تمثل أداة قياس نرجع إليها في استعمالات مختلفة لاختلاف القيم والاعتراف بها، حيث أن العدالة متعددة في تطبيقاتها إلى درجة تجعل الحديث عن مساواة مركبة، باعتبارها معياراً يحكم به على المجتمعات الخيّرة. ولذلك احتلت مسألة العدالة مكانة مركزية في الفلسفة السياسية.
غير أن هذه التحليلات حول العدالة لا تعطي تحديداً نهائياً لها، فمن الجدير هنا أن يتم تحديد العدالة بطريقة سالبة حتى يستوضح الترابط بين العدالة والعمل، فما اللا عدالة في أفق العمل؟ يمكن الإجابة كالتالي، إنه من اللا عدل أن لا يعمل الإنسان في حين أنه قادر على العمل، وبالتوازي إنه من اللا عدل أن نطالب المجتمع بحقوق دون أن نعمل، إنه من اللا عدل أيضاً أن نسيء معاملة العامل في عمله فنحرمه من الحرية والكرامة، إنه من اللا عدل أن نعمل في ظروف مشينة، إنه من اللا عدل أن نعمل مقابل أجر زهيد. ومن هذا المنطلق السالب، يمكن القول إن العادل من وجهة اجتماعية هو ما يمنح لكلّ فرد إمكانية تحقيق مشروع وجوده أي ما يسمح بجعل الفرد شخصاً مكتملاً وما يؤمّن كرامته الإنسانية، وذلك ما ينطبق عليه تحاليل راولس في نهاية المطاف، وهو ما يعني أن العمل يتموضع إلى جانب الحياة فإن نحرم أحداً من العمل هو أن نحكم عليه بالموت، الموت من الفقر أو الموت الرمزي الذي يصيب المستبعدين اجتماعياً، و لكن بأيّ معنى يكون العمل لا فقط شرط للعدالة الاجتماعية، بل ركيزة أساسية لها، ولمزيد من الدقة، لماذا يتم الإقرار بحقّ العمل؟ هنا يلاحظ أوّلاً: أن التشريع لحق العمل ضروري لأن العمل يحتل مكانة هامة في الوجود الفردي والجماعي في العصر الحديث، لأن العمل لم يكن كذلك في كل الأزمنة، ويكفي هنا التذكير باللا تطابق بين العمل والمواطنة في العصر القديم الإغريقي، وكذلك في العصر الروماني.
ففي المستوى الاقتصادي أصبح العمل مبدأً مشرعاً للملكية و الثروة بعد أن كانتا في الفكر القديم حقاً طبيعياً و إلهياً، فبالنسبة للمدرسة الليبرالية مع جون لوك، إذا كان الله قد وهب الأرض ليتقاسمها الناس فإن العمل هو الذي يبرر ملكيتها من قبل من يعمل فيها, يقول لوك بعد أن تساءل عن أصل الملكية: “واضح أنه لو لم يجعلها الاقتطاف بادئ ذي بدء ملكاً له لما جعلها شيئاً آخر، ففعل الاقتطاف كنشاط إنساني و بالتالي كعمل هو أساس الملكية و الثروة، و منها تكون العدالة إنصافاً بما أنه لكل إنسان بحسب أحقيته و جدارته. “[8] و جون باتيست ساي يدقق بأن إبداع النفع، أي العمل بما هو خلق إنتاج ما، هو خلق للثروة إذ يقول: ” قد ازعم بأن إبداع أشياء لها نفع ما، هو إبداع ثروات.”[9]
وفي المستوى السياسي، فإن نتائج مثل هذه الأطروحات، كانت حاسمة بما أنها ترسم، ولو نظرياً، أفق إمكان مساواة على أساس أن العمل كقدرة، يمثل أعدل الأشياء توزيعاً بين الناس. كما أنها تطرح عدة إشكاليات و مستجدات تتعلق بالديمقراطية و نظم الانتخاب و تطرح أيضاً مخاوف من اللا عدالة من جراء تحول الملكية إلى معبود في المجتمعات الاستهلاكية و ما يرتبط بذلك من تناقضات اجتماعية و استتباعات أخلاقية. وهو ما يؤدي إلى السؤال عن الطريقة الأمثل للملاءمة بين قيمتين متطابقتين نظرياً في حين يطرح ارتباطهما في المستوى العملي مشاكل عديدة.
إن الموقف الليبرالي يبدو مفرطاً في التفاؤل، فهذا الموقف ينطلق من مسلمة مفادها أن السوق هو الموجه الراعي للتوافق بين العمل و العدالة، إذ يمثل السوق شكلاً من أشكال العدالة الإجرائية الكاملة، و لا يمكن أن تكون إنتاجاته إلا عادلة، و لأنه عادل فإن السوق ينتج العدالة من خلال ميكانزماته الخفية للانتظام الذاتي، ميكانيزمات يسميها آدم سميث بـاليد الخفية التي تمثل فاعلاً يحول المصلحة الخاصة بضرب من الارتداد إلى فائدة عامة، ذلك أن العلاقات الاقتصادية تجعل العامل يساهم بعمله في الاشتغال العام للمجتمع، و كل فعل إنتاج مهما كان خاصاً ينخرط في منظومة علاقات السوق،”[10] أي ينخرط في علاقات متوسعة شيئاً فشيئاً، إذ يمر الفرد من الورشة إلى المعمل إلى المكتب، إلى الجهة، إلى الوطن، إلى السوق العالمية. و فريديرك هايك يذهب إلى أبعد من ذلك، حيث أنه يعتبر ” أن كل تدخل خارجي في السوق سيكون وبالاً على العدالة الاجتماعية و يولد نتائج معاكسة، ذلك أن العدالة التي تفرض من الخارج ليست إلا سراباً.”[11]
لكن هذا الموقف الذي كان هيوم قد نقده بالاستناد إلى مسلمته المركزية التي تفترض أن السوق عادل، عندما يعلن أن هذا الإقرار يؤدي إلى اختزال ما يجب أن يكون في ما هو كائن، هذا الموقف يسلم ضمنياً أيضاً بكونية السوق، و لكن ما هو مبرر هذه الكونية، هل أن صلاحية قانون العرض و الطلب، سواءً في شكله الكلاسيكي الذي يقر تناسب العرض مع الطلب، أو في شكله الحديث الذي يعتبر العرض مولد للطلب، التي هي مبرهنة في النظام الاقتصادي، هي كذلك في الأنظمة الأخرى، أليس النظام الاجتماعي قائماً على الاتفاق، له قوانينه الخاصة التي لا يمكن اختزالها في علاقات السوق؟ أليس الإقرار بكونية السوق مرادفاً إلى تحويل المجتمع إلى سوق، ألا تمثل كونية السوق الوجه الحقيقي للعولمة و النظام الجديد الذي تريد الشركات الكبرى فرضه على كل دول العالم بحيث تكون مصلحتها الخاصة، مصلحة عامة شئنا أم أبينا ؟.
إذا كان العمل هو أهم خصائص الإنسان النوعية، فإن المقولة المركزية التي تتأسس عليها سائر المقولات والحقل الدلالي الذي تتفرع منه سائر الحقول، هو: الإنتاج الاجتماعي الإنساني، إنتاج المعارف والثروات المادية والروحية وإنتاج علاقات البنى والتنظيمات الاجتماعية والثقافية والسياسية، فالطابع الاجتماعي أهم مضمر من مضمرات العمل البشري وكذلك الطابع الإنساني العام، العالمي أو الكوني، الصفة الاجتماعية للعمل ليست صفة عارضة أو خارجية أو مقحمة على العمل من خارجه، بل هي بالأحرى صفة جوهرية أو ماهوية نابعة من جوهر الإنسان وماهيته، ومثلها صفته الإنسانية.
وقد أفصح العمل الصناعي وما فوق الصناعي تباعاً عن طابعه الاجتماعي وعن طابعه الإنساني، وتجلّى ذلك بوضوح في الفكر الحديث والمجتمع الحديث (المجتمع المدني العلماني الديمقراطي) وفي الدولة الوطنية – القومية، ولا سيما دولة الرفاهية، وفي السعي الحثيث إلى أممية ديمقراطية وإنسانية، ومن ثم فإنه لا يمكن فهم صيرورة نمو العالمية إلا في ضوء عملية الإنتاج الاجتماعي وبدلالتها. ولا يمكن فهم عملية أو صيرورة العولمة الجارية اليوم إلا في ضوء العلاقة الجدلية بين النظام الرأسمالي العالمي، بما هو نظام إنتاج بالمعنى الشامل للكلمة، ونسق العلاقات الدولية المنبثق عنه والمحدد به، وهذه العلاقة هي المعادل السياسي للعلاقة الجدلية بين التنافس والاحتكار؛ إذ يرتبط الأول أي التنافس، بالديمقراطية، في حين يرتبط الاحتكار بالاستبداد والتسلط والشمولية. ولعل خلط مقولتي النظام العالمي والنظام الدولي واستعمال إحداهما بمعنى الأخرى هو أساس الارتباك في معظم الكتابات العربية حول العولمة. إضافة إلى عدم تمييز النموذج النظري المجرد للنظام الرأسمالي العالمي من الرأسمالية المتحققة بالفعل والتي اصطبغت بعد الحرب العالمية الثانية بصبغة أمريكية لا تخفى. فقد كفّ ذلك النموذج النظري المفهومي عن كونه أداة معرفية ومعيارية لنقد الرأسمالية المتحققة بالفعل، حيث تمادى بعض المفكرين أمثال فوكوياما في وصفها بأنها نهاية التاريخ. فما أفصح عنه فوكوياما هو ما يضمره معظم الذين تناولوا موضوع العولمة في المجال العربي. ولا سيما أولئك الذين يقدمون لها صورة وردية أو يرون فيها قدراً لا فكاك منه أو حتمية علمية لا محيد عنها، أو وعداً بالديمقراطية والرفاهية وحقوق الإنسان، وفي هذا المجال تلتقي القدرية الغيبية والحتمية العلمية، وتتبادلان المواقع و تقومان بالوظيفة ذاتها.
إن الانطلاق من مقولة العمل البشري والإنتاج الاجتماعي، للتعرف على حقيقة العولمة الجارية، يعين وجهة نظر ومنطقاً متناقضين مع وجهة نظر ومنطق الليبرالية الجديدة، ويضع الإنسان بوصفه فرداً طبيعياً أولاً، وكائناً اجتماعياً -أي عضواً في المجتمع والدولة على اختلاف أشكالهما القائمة والممكنة- ثانياً، وبصفته جملة كلية وماهية عامة ثالثاً، يضع الإنسان في صلب منظومة الأفكار، وفي محور الصيرورة التاريخية وغايتها، فتغدو القضية قضية التعارض القائم بالفعل بين الليبرالية الجديدة ومنطقها الوضعي الخالص والمكتفي بذاته، وبين الديمقراطية ومنطقها الجدلي الذي تقع الوضعية الإيجابية في صلبه بصفتها لحظة من لحظاته الضرورية.
إن القضايا الأخلاقية يمكن أن تنشأ عندما يجب أن تتوافق مع شركات متعددة ومتضاربة أحياناً من الناحية القانونية أو من ناحية المعايير الثقافية، كما هي الحال بالنسبة للشركات المتعددة الجنسيات التي تعمل في البلدان التي تتبع ممارسات متفاوتة، وهنا السؤال الذي يطرح نفسه هو، هل يجب على الشركة الانصياع لقوانين بلده الأم، أو ينبغي لها أن تتبع قوانين أقل صرامة من بلد آخر من البلدان، وهو ما يحدث بالفعل في الأعمال؟ ولتوضيح هذا الأمر، نجد في الولايات المتحدة قانون يدعى: “بقانون جريشام والأخلاق السيئة، وهو قانون يحظر الشركات من دفع رشاوى سواء محلياً أو في الخارج،”[12] ولكن في أجزاء أخرى من العالم، نجد أن الرشوة هي العرف، وهي وسيلة مقبولة لمزاولة الأعمال التجارية، كما يمكن أن تحدث مشاكل مماثلة فيما يتعلق بعمالة الأطفال، وسلامة الموظفين، وساعات العمل، والأجور، والتمييز، وقوانين حماية البيئة.
لقد وضعت العديد من الشركات سياسات داخلية تتعلق بالسلوك الأخلاقي للعاملين، كجزء من برامج شاملة لمزيد من الالتزام بالأخلاق، و يمكن أن تكون هذه السياسات على شكل مواعظ بسيطة، في لغة عامة، وعادة ما تسمى ببيان أخلاق الشركات، أو يمكن أن تكون سياسات أكثر تفصيلاً، تحتوي على شروط محددة سلوكية، عادة ما يسمى بمدونات قواعد سلوك الشركات. وهي عموماً تهدف إلى تعريف توقعات الشركة من العمال، وتقديم المشورة بشأن معالجة بعض المشاكل الأخلاقية الأكثر شيوعاً التي قد تنشأ في سياق ممارسة الأعمال التجارية. حتى أن العديد من الشركات تطلب موظفيها حضور حلقات دراسية بشأن السلوك التجاري، والتي غالباً ما تتضمن مناقشة سياسات الشركة، ودراسات حالة محددة، والمتطلبات القانونية. حتى أن بعض الشركات تطالب موظفيها بتوقيع اتفاقات تنصُّ على أنهم سوف يلتزموا بقواعد سلوك الشركة.
طبعاً لا يؤيد الجميع السياسات المؤسسية التي تحكم السلوك الأخلاقي، فيدعي البعض أن أفضل تعامل مع المشاكل الأخلاقية يكون من الموظفين تبعاً لقرارهم الخاص. ويعتقد البعض الآخر أن سياسات أخلاقيات الشركات هي في المقام الأول متجذِّرة في الاهتمامات النفعية، وأنها أساساً للحد من المسؤولية القانونية للشركة، أو لتملق الجمهور من خلال إعطاء مظهر كون موظفي الشركة مواطنين صالحين، من الناحية المثالية.
لقد أحدثت التطورات التقنية ثورة كبيرة في أنماط الحياة، بعد أن نقلت الحياة البشرية من مستوى إلى آخر ومن حالة إلى أخرى، انطلاقاً من القرن التاسع عشر، وذلك بتأمين المواصلات والاتصالات بين القارات والدول باستخدام القطارات، السيارات، الطائرات، الهاتف، التلفزيون، الانترنيت، التجهيزات المنزلية، وغيرها، وهو أمر وضع الشركات والمؤسسات الإنتاجية والخدمات أمام تحد كبير ومشكلة جديدة تمثلت في فترة الإنتاج، وتدني سعر الكلفة، وقد كان بشكل ملحوظ بعد اعتماد أسلوب جديد في العمل، ومن رواده تايلور “الذي حول في مشروعه وعمله القوة البشرية المنتجة إلى قوة تعمل بشكل آلي من خلال توزيع العمل إلى مهام إدارية وتنفيذية وعدم الخلط بينهما، حيث تميزت التايلورية بتدريب العامل على مهمة واحدة محددة ومدروسة، بحيث يؤديها بكفاءة عالية وسرعة قصوى عن طريق استخدام التجهيزات بالشكل الملائم لإنتاج السلع خلال الوقت الممكن وتحت إشراف المسؤولين المباشرين، من الرأس إلى القاعدة، بشكل هرمي. “[13] لكن التايلورية لها سلبيات يمكن تلخيصها في الحد من ابتكار العامل وتحويله إلى أداة ميكانيكية، بسبب تكرار الحركة نفسها. وإذا حصل خطأ ما ينتقل هذا الخطأ على خط الإنتاج بكامله.
أدى هذا الأسلوب في الإنتاج إلى نتائج شبيهة بالنتائج التي أدّت إليها الفوردية -نسبة إلى الصناعي الأمريكي هنري فورد- الذي اعتمد طريقة تثبيت العامل في مكانه، بحيث تمر القطعة أمامه وهو ثابت في هذا المكان وذلك عن طريق نقال آلي فتتوقف القطعة أمامه لإتمام مهمته قبل أن تنتقل بواسطة الآلة إلى العامل الآخر، سمي هذا الأسلوب من الإنتاج بالتنميط في الإنتاج، أي توحيد منظم لمقاييس السلع ولمواصفاتها، كما تهدف هذه الطريقة إلى خفض التكاليف ورفع الإنتاجية، وهكذا يتحول الناس إلى آلة من خلال الاكتفاء بقوة سواعدهم والاعتماد عليها دون الرجوع إلى الاعتماد على ذكائهم.
من المفترض في عصر المعلوماتية، والفضائيات والصناعات المتطورة، والحياة المتبدلة الأنماط، المتسارعة الأحداث، وضع المسألة الأخلاقية على رأس سلم الأولويات من أجل ضمان استمرار الحياة الإنسانية على الأرض، إلا أن تشخيص الانحطاط بمستوياته، لم يفلح في التوصل إلى قيم أخلاقية مشتركة ومقاييس شاملة، ليعمل على حماية الإنسان من التعرض إلى خطر المشاكل الحياتية والأزمات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وهي تنذر بانهيارات اجتماعية واقتصادية، وبانحلال أخلاقي على مستوى الإنسان والمجتمع والدولة، فالعالم كما يبدو يتحول نحو المادة باطراد، ويتحول الناس معه إلى ما يشبه الآلات الصناعية، بعيداً عن التفاعل الاجتماعي، وحرارة التواصل الإنساني، وسلوك العيش الطبيعي، بمحبة وتعاون بعيداً عن الأنانية والجشع والفردية.
لقد تنبّه العديد من الفلاسفة والمفكرين إلى أن الأزمة التي تطال مجتمعات الدول المتطورة والدول النامية هي أزمة أخلاقيات تتمثل في تدمير التقاليد في ظل غياب القيم والقواعد الأخلاقية والإيمانية، وتكنولوجيا هائلة، وصناعة قادرة، يمكن أن تدمر البيئة بجميع عناصرها وموجوداتها، دون الأخذ بعين الاعتبار شرعة الأخلاقيات في الأعمال وما تتضمنه من قيم ومبادئ تهدف إلى الخير العام الذي لا يتحقق إلا باحترام أخلاقيات الأعمال.
والعولمة في هذا السياق هي تعبير حديث يعني الانتشار على مستوى المجتمع الدولي لأنظمة اقتصادية ومادية وسياسية وثقافية معينة، إنها نهج اقتصادي وسياسي عالمي من نتائجه إلغاء الحواجز التي تعيق تنقل الأشخاص، وانتصار لمنطق السوق الحرة، مع ما ينتج عنها من تحولات سريعة في الأنظمة الاجتماعية والحضارية.
و شهدت فترة ما بعد 1960 نشوء الشركات متعددة القومية، من جهة، والنمو السريع للتجارة العالمية، من جهة أخرى، ثم تلاها بعد ذلك، خلال أعوام 1971-1973 توسيع جاد في استثمار الأسهم والإقراض المصرفي على الصعيد العالمي إثر تدويل أسواق رأس المال، وخصوصاً أسواق النقد، مما زاد في تعقيد العلاقات الاقتصادية العالمية، مدشِّناً ما يحسب أنه عولمة أصيلة لاقتصاد عالمي متكامل ذي اعتماد متبادل، من خلال تبني علاقات تجارية جديدة، والإيحاء بأخلاقيات جديدة للسوق التجارية، الموضوع الذي سيتناوله البحث فيما يلي بمزيد من الدقة والتمحيص.
[1] – جان جاك روسو: أصل التفاوت بين الناس ، ترجمة عادل زعيتر، اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية ( الأونسكو )، القاهرة 1954، ص 85 .
[2] – جون كي : حقوق وأخطاء الملكية الفكرية ، جريدة فاينانشيال تايمز ، عدد 21 آذار 2001 ، ص17 .
[3] – Bertrand Russel: History of Western Philosophy, London, 1954, p.565.
[4] – المصدر السابق نفسه، ص567.
[5] – Robert A. Schultz : Information Technology and the Ethics of Globalization : Transnational Issues and Implications, Information Science Reference, Hershey – New York – USA, Copyright 2010 by IGI Global, p. 60.
[6] – المصدر السابق ، ص 61 .
[7] – John Rawls, Théorie sur la justice, Ed du Seuil, Paris, 1993, p.8. et Paul Ricœur, Histoire et Vérité, Editions le Seuil, Paris 1955,p.20.
[8] – جون لوك: في الحكم المدني، تر: ماجد فخري، اللجنة الدولية لترجمة الروائع ، بيروت 1959، ص15 .
[9] – John Baptiste Say: Traite d’Economie Politique, Paris, 1941, p.138.
[10] – Adam Smith: Richesse des Nations, Costaes, Paris, 1950,p.22.
[11] – F.A. Hayek: History and Politics, in ” Capitalism and Historians “, op., cit., p.3.
[12] – الموسوعة الحرة: أخلاقيات الأعمال، من ويكيبيديا.. ar.wikipedia.org/wiki/
[13] – د. كميل حبيب، و د. جان بولس: أخلاقيات الأعمال في عالم متغير ، المؤسسة الحديثة للكتاب ، طرابلس – لبنان 2007 ، ص 36 .